قلت بالسابق إن
أمى لم تعرف من الدنيا حتى ذلك الحين إلا بيتها وأولادها الذكور الثلاثة وقريتها وأسرتها
وبالكاد شربين وهى المركز والمنصورة وهى المحافظة والتى زارتها طفلة للتسنين أى تزوير
شهادة طبية بأنها بلغت ال14 سنة كى يزوجوها من أبى . ولكن أمى كانت تقرأ جيدا وتكتب
ولكن بدرجة أقل جودة وقدحصلت على تعليم أولى حتى الثالثة أو الرابعة ابتدائى .لاتذكر
بالتحديد ولكنها تتذكر أيام المدرسة بحب وشغف وعشق لم أعرفه أنا فى المدرسة ولا أظن
الأجيال التالية قد عرفته . ولكن كيف ذلك ؟سأحكى لكم ..
كان جدى لأمى من أشراف عرب كفر صقر بالشرقية
وكان اسمه ( الشيخ عبد الصمد الامام حسن زيد ) وكان لقب عائلته الأخير ( المغربى )
وبذلك نعرف أن جدوده هاجروا من الجزيرة العربية للمغرب ثم فى هجرة عكسية أخرى لمصر
واستقروا فى قرى كفر صقر بالشرقية ثم هاجر بعضهم لقريتنا قبل مائتى سنه وكونوا أسرة
بها . وتذكر أمى كيف كان أقارب والدها يأتون لزيارته من كفرصقر وتصفهم بأنهم رجال ملء
العين طوال ويرتدون الجلباب العربى الواسع والعمامة .وكانت عائلة أمى موزعة بين الزراعة
والدين فكان جدى الشيخ عبد الصمد ناظرا على الأرض الزراعية لكل القرية من قبل الخواجات
الذين كانواهم الانجليز الذين رأتهم أمى وهى طفلة . وكم لعبت فى سراى العمدة ببراءة
وكانت ترى سيدات الانجليز خاصة فى موسم جنى القطن . والذى خصص له الانجليز سكة حديد
من أبعد نقطة فى الأرض حتى باب السراى .وكان جدى مشرفا على ذلك كله من أرض ومخازن غلال
ووقود وعمال يومية . أى أنه لم يمارس الزراعة بيده لأنه ( حضرة الناظر) .اما أخوالى
فقد مارسوها بمهارة .
أما الفرع الأخرمن عائلة أمى فشغل مناصب الدين
فى القرية من المأذون الشيخ عبد العليم زيد إلى غيره فقد كان المأذون وخطيب الجمعة
فى جامع البلد الكبير الذى لم يكن سواه وقدرأيته طفلا فوق المنبر يقرأ من ورقة بيضاء
وتدمع عيناه وكان من عاداته أن يسجل خطبه مكتوبة بكل المناسبات فإذا حلت مناسبة ما
مثل الاسراء والعراج أوالهجرة أخرج الورق الخاص بها فقرأه على المنبر وأحيانا كان
يحدث أن يأتى بكلام لمناسبة غير التى حلت وتصبح الحادثة مثار تندر المصلين أى أنه
عرف الخطبة الموحدة والمكتوبة مسبقا قبل أن تجعلها وزارة الأوقاف أمرا رسميا فى
يناير 2014 !.. وهو الذى كتب وثيقة زواج أبى على أمى وأحتفظ بها للأن وكان مهر أمى
ثلاثين جنيها . وقد ورث عنه ابنه محمد المأذونية .
وكان يوجد فى الجامع الكبير ضريحا لجد لى من
عائلة زيد فى مقدمة المسجد وله لوحة رخامية تعلوه تشير إلى وفاته ولكن مع هدم الجامع
القديم وبنائه من جديد اندثر هذا المدفن بلوحته الرخامية وضاع رسم الجامع القديم الذى
كان أحن وأجمل وأكثر دفئا من الجامع الحالى الذى كلما صليت فيه تحسرت على الجامع القديم
الذى طالما صليت فيه ولعبت بساحته فى ليالى الصيف التى كانت تأتى دائما فى رمضان .
ورغم أن القرية لم تكن تعرف لا الكهرباء ولا المياة ولا أى صور للرفاهية إلا أن الحياة
كانت ممتعة والبال رايق والذهن خالى وأعتقد أنهم لم يكونوا اخترعوا الحكومة بعد ولا
الفواتيرمن غاز وكهرباء ومياه وتليفون ومحمول وانترنت وتحولت حياتنا كلها لفواتير
شهرية وأسبوعية أو أن الناس كانت لا علاقة لها بالحكومة إلا أيام فيضان النيل قبل بناء
السد العالى إذ تضطرهم الحكومة للعمل الجماعى فى تعلية جسر النيل بمقاطف التراب حتى
لا تغرق القرية ومع ذلك كان النيل يفيض من فوق الجسر كما تقول أمى وكان يغرق البيوت
الطينية المطلة عليه والويل لمن تجازف بالذهاب إليه إذ كان يجرف الطشوت النحاس والحلل
والأباريق بقوة موجه وأحيانا كان يجرف الأطفال والكبار أيضا !كان ماء الفيضان شلالا ومحمل بالغرغرينا
والطمى وكان كل السكان يشربون منه بعد نقله إلى الزير والقلل الفخار التى كانت بكل
دار وكان ( الملا ) يقوم بحمل الماء من النيل للدور نظير أجر زهيد وهو (السقا )
المعروف عند أهل القاهرة قديما قبل مد شبكات المياه النقية للبيوت . وكان يتم
تنقية المياه بنوى البلح أو المشمش أو الشبه وكان طعم الماء مثل السكر .وكان كل
زير محمول فوق ما تسمى ( القطارة ) وأسفلها ( بزبوز ) أوحنفية للفتح والإغلا ق عند
الاستعمال . وكان ماء الزير والقلل للشرب وطهى الطعام . أما غسيل الملابس وأوانى
الطعام فكان فى الترعة أو فى النيل وكانت الناس تشرب من ماء النيل أو من الترعة
ومن القنوات الصغيرة وهكذا فعلنا نحن قديما . وكان هناك أكثر من ( ميضه ) وهى مكان
مخصص على شاطىء النيل أو الترعة للنزول للماء بسلالم لجميع الاستخدامات ومنها الوضوء
للصلاة . وعادة ما تكون إلى جوارها ( مصلى ) أو زاوية صغيرة للصلاة . طبعا هذا قبل
اختراع وزارة الأوقاف وتوحيد الصلاة والخطبة والدعاء وضم كل جحر للوزارة وليس
بعيدا أن يصلى المسلمون بالكروت الذكية بعد ذلك ونتحول من أشخاص طبيعيين إلى أرقام
مخزنة على الكمبيوتر !
وقد رأيت بنفسى وأنا طفل كيف كانت الترعة التى تشق
القرية يجرى فيها الماء شلالا قويا رائقا أما
اليوم فهى جف ماؤها وصارت مقلبا للزبالة ومأوى للفئران وكل أنواع الحشرات
ومنظرها مؤذى ويغم النفس . طبعا زمان لم يكونوا اخترعوا الحكومة بعد أما اليوم
وبعد اختراعها فسنجد أن وزارة الرى تخصص كم مليونا لتطهير الترع فتذهب لجيوب
المحاسيب والمدراء وتبقى الترع كما هى على اعتبار أن الزبالة هدف قومى ومشروع وطنى
وعشرة عمر والعشرة لا تهون إلا على ابن الحرام وصباح الخير ياحكومة !
وأمس فقط الخميس 13 فبراير 2014 استمعت لخبر
فى نشرة التاسعة بالتليفزيون المصرى الرسمى أن لقاءا تم فى بورسعيد جمع بين وزير
الزراعة ومحافظى بورسعيد ودمياط والدقهلية لتطهير بحيرة المنزلة وتخصيص 450 مليون
جنيه لهذا الغرض . وأقسم أنى سمعت مثل هذا الخبر مرارا ومنذ مولدى ولا جديد بل تقلصت
مساحة البحيرة وضربها التلوث الصناعى والصرف الصحى ووضع الأقوياء يدهم على مساحات
شاسعة منها وحولوها لأرض يابسة للبناء فوقها وأصبح الصيادون فيها تحت رحمة التهديد
ليس بقطع أرزاقهم فقط بل بقطع رقابهم بالسلاح الألى ويتم ذبح البحيرة تحت بصر وسمع
الجميع وعلى رأى زوجتى فإن الهدف من مثل هذه الاجتماعات هو شرعنة الفساد وصرف
الاعتمادات للكبار وإلا كانوا استعانوا برسالتها لنيل الماجستير عن بحيرة المنزلة
!طبعا نحن أمة تقدس العلم والعلماء ولذلك نحتفظ بالعلم فى الأدراج خوفا عليه من
البرد ونجوع العلماء ونذلهم .وقديما قال الزعيم : العلم لا يكيل بالباذنجان وتحيا
الأمة العربية المهلبية ! وسنلتقى بعد سنوات والبحيرة مجرد ذكرى وأثر بعد عين
وسنرى .
وعلى رأى الرجل المحترم عبد الغفار شكر الذى
كان بالاتحاد الاشتراكى فى زمن عبد الناصر ثم مارس السياسة فى عصرى السادات ومبارك
ومابعد مبارك وإلى اليوم وما بعد اليوم باعتبارة من شباب الثورة . قال الرجل فى
مؤتمر عن الفساد وسمعته بنفسى إن بمصر ثلاثة أنواع من الفساد فقط . أموت وأعرف
الأنواع الثلاثة لأنى كنت أظن أن مصر خالية من الفساد ونظيفة كأطباق الصينى بعد
غسيلها . طبعا مصر مثل بقية الدول العربية طاهرة عفيفة شريفة نزيهة والمصريون
كالعرب ملائكة أطهار ب 24 سلندر و360 جناحا وبما أننا خير أمة فنحن مكاننا الجنة
أما الدنيا فنحن خارج خريطة العالم وصباح الخير يا عرب !
وهنا أذكر أبياتا من الشعر أعجبتنى للشاعر الكويتى نورى الوائلى يقول فيها
: (من ينشد الخير فى قوم بلا قيم – كزارع
فوق أرض البور عرجونا – ما قيمة العلم والأخلاق ضائعة – ما قيمة الدور تحوينا
أساطينا – لا يغلب السيف أخلاقا إذا حسنت – فالبيض أدنى من الأخلاق ترضينا ).
نعود للكلا م عن جدى أحسن .. وجدى الشيخ عبد الصمد تزوج أربع مرات .. فى
المرة الأولى تزوج ( ستوتة أم موافى ) وأنجب منها ( محمد والمرسى ونفيسة ) وفى
الثانية تزوج بعد وفاة الأولى ( لطيفة الناغى ) ولم تنجب وطلقها . وفى الثلاثة
تزوج جدتى لأمى ( نعيمة عبد الحى سالم )
وأنجبت له ( عبد السلام ووجيدة ومطاوع وزينب أمى وأحمد ) وكانت جميلة بيضاء . وبعد
موتها تزوج ( فاطمة عبد التواب ) وأنجب منه (سامية )ومات رحمه الله قبل أن يكمل 12
زوجة !
وقد رأيت زوجته الأخيرة أم خالتى ( سامية )
وعاشت حتى تخرجت من كليتى وكانت كلما ذكرته لها تحدثت عنه كما لو كانت تتحدث عن
نبى مرسل أو ولى صالح ولا تتحمل عليه كلمة واحدة ولو على سبيل الدعابة. وتقول إبنة
أخو جدى ( فاطمة أم معوض ) إن عمها الشيخ عبد الصمد رأى عندها ( فاطمة عبد التواب
) وكانت ممتلئة بيضاء وشعرها الأسود إلى أسفل ظهرها فسأل عنها وعرف أنها بنت (
الريس عبد التواب ) الذى كان يبيع الرمل ويستقبله من المراكب إذ كانت وسيلة النقل
الوحيدة تقريبا عبر القرى . المهم احتال جدى وطلب من أبنة أخيه أن تستدعيها بأى
حجة فجرت خلفها ونادت عليها أن تعود لتحمل عليها مرتبة السرير كى تخرجها تتشمس
فعادت وفوجئت بجدى يصافحها ويضغط على يديها ويقول لها ( ازيك يا أم عبده ) وكانت
الشرارة ..
ذهب جدى لشقيقته ( أمينه ) واستشارها فى
الأمر ومساء أخذ شقيقه وأقاربه لبيت الريس عبد التواب وطلب يد ابنته فرد بأن جدى
بيت فلاحين وفيه مواشى وزريبه وخلافه وابنته كان سبق لها الزواج فى مصر ومطلقة ولا
تعرف شيئا عن حياة الفلاحين فرد جدى أنه ناظريرتدى الحذاء والشراب فى قدميه ولا
يعمل بالارض بيديه . فنادى الريس عبد
التواب على ابنته وقال لها إن الشيخ عبد الصمد يريدأن يتزوجك فقالت : (موافقة يا
با ) فعاد يقول لها إنك ستربطين حمارته وتمسحين تحت المواشى فردت ثانية :( موافقة
يابا ).وتم الزواج وغرقت هى فى صفائح القشدة والسمن البلدى واللبن والخير والبركة
ورحل جدى بعد أن كان غرس أخر بذرته خالتى سامية .
كان جدى يعول أقاربه من الفقراء رعاية كاملة لدرجة أن أمى
تشهد له بأنه كان يمر عليهم جميعا بعد صلاة الفجر وكان اللبن الطازج والقشدة والسمن
البلدى وكل ما تجود به الأرض من فول وأرز وقمح وبصل وخيار وقرع وباذنجان و.. لابد أن
يوزع على الجميع وكذلك السمك الذى يصطادونه من الترع والقنوات . لذلك تذكر أمى جدى
وكأنها تتكلم عن أحد أولياء الله الصالحين .وكان يرتدى زى مشايخ الأزهر من جبة وقفطان
وعمامة ومسبحة طويلة وعصا وشمسية لحمايته من الشمس ويركب الحمار أو ( الكارته )
وهى عربه تشبه الحنطور يجرها حصان وتذكر أمى أنه كان بالليل يجلس على أريكته
وأولاده أسفل قدميه وعلى ضوء اللمبة الجاز نمرة عشرة يطلب من خالى عبد السلام أن
يأتى بأحد كتب الدين كالبخارى أو تفسيرالقرأن
ويطلب منه أن يقرأ لهم منه .وأحيانا يطلب من أمى أن تسمع له ما أخذته فى
المدرسة من قرأن ويصحح لها النطق وما تتذكره مراجعته لها فى سورة ( ويل لكل همزة
لمزة ) . ورايت بنفسى مدافن عائلة أمى القديمة
قبل تجديدها وتعلوها قبة ضريح . وكان أبى كلما
كان راضيا عن أمى ذكرلها أن جدها النبى كما سمع من أبيه .
ورأيت بنفسى عمة أمى واسمها ( أمينه ) وكانت
متزوجة فى بيت ( الا تربى ) وأصل الكلمة ( اليثربى ) لأنهم من يثرب بالجزيرة العربية
أساسا . كنت طفلا وأخر العنقود فكانت أمى تعلقنى أو تسحبنى فى يدها إلى كل مكان ..
إلى البحر وإلى (المرشح ) وهو حنفية عمومية كانت تتوسط القرية قبل دخول المياة النقية
للبيوت وكانت أمى تذهب إليها ليلا حتى لا يراها الناس . هكذا كان الحياء والاحتشام
زمان . أى لا يصح أن تخرج للمرشح نهارا .وقبل المرشح كانت تذهب للنيل ليلا أو فجرا
وكم تحمل ذاكرتها من حكايات الجن والعفاريت الذين كانوا يعترضون الناس ليلا . وكم
من غريقة فى النيل قيل إن الجن جذبها للماء وتزوج منها . وكنت أسير معها حاملا بعض
الحلل ولمبة صغيرة جدا تعمل بالجاز نسميها ( وناسة ) وكانت نمرة خمسة . وبعد انتهاء
واجب الغسيل اليومى للملابس والحلل تقوم أمى بعملية استحمام لى ثم نعود للبيت فى الظلام
الدامس كما خرجنا وأن أحمل معها الحلل والثياب وعادة ما كانت الوناسة تنطفأ بفعل
الهواء ونعود متعثرين فى الطريق .
ولا زلت أذكر (أمينه ) عمة أمى حاليا كما لو
أنى أراها الأن .. كانت شديدة البياض . أميل للقصر والبدانة وكانت تجلس على سرير نحاس
قديم مرتفع عن الأرض . وكان السرير غاية فى البياض والنظافة . وكانت تأخذ أمى بالحضن
وتتذكر شقيقها الشيخ عبد الصمد وتظل تذكر مأثره والكلمة التى لا أنساها وكانت تتردد
على لسانها باستمرار هى : (يانن عينى ياعبد الصمد ) وهى تبكى . وأشهد أن عائلة أمى
كان فيها حنان غير طبيعى لم أره بعد ذلك أبدا إلا فى أمى التى وصفتها زوجتى بأن حنانها
مدلدق أى لا حد له وهى كذلك بالفعل وقد مرت أمى لاحقا بعد موت أبى بابتلاءات ومصاعب
تكسر الجمل وتهد الجبل خرجت منها سالمة بفطرتها وإيمانها القوى بالله وتسليمها المطلق
لله وأنا أحسدها على إيمانها هذا الذى يفوق برأيى إيمان علماء الدين الكباروأعدها
من أولياء الله الصالحات .
ولكن كيف تعلمت أمى القراءة والكتابة فى هذه
البيئة ؟ وماعلاقتها بالمدرسة ؟ وما ذكرياتها عنها ؟..هذا ما سنعرفه فى الفصل القادم .