الجمعة، 14 فبراير 2014

امبراطورية الشيخ عبد الصمد

قلت بالسابق إن أمى لم تعرف من الدنيا حتى ذلك الحين إلا بيتها وأولادها الذكور الثلاثة وقريتها وأسرتها وبالكاد شربين وهى المركز والمنصورة وهى المحافظة والتى زارتها طفلة للتسنين أى تزوير شهادة طبية بأنها بلغت ال14 سنة كى يزوجوها من أبى . ولكن أمى كانت تقرأ جيدا وتكتب ولكن بدرجة أقل جودة وقدحصلت على تعليم أولى حتى الثالثة أو الرابعة ابتدائى .لاتذكر بالتحديد ولكنها تتذكر أيام المدرسة بحب وشغف وعشق لم أعرفه أنا فى المدرسة ولا أظن الأجيال التالية قد عرفته . ولكن كيف ذلك ؟سأحكى لكم ..
كان جدى لأمى من أشراف عرب كفر صقر بالشرقية وكان اسمه ( الشيخ عبد الصمد الامام حسن زيد ) وكان لقب عائلته الأخير ( المغربى ) وبذلك نعرف أن جدوده هاجروا من الجزيرة العربية للمغرب ثم فى هجرة عكسية أخرى لمصر واستقروا فى قرى كفر صقر بالشرقية ثم هاجر بعضهم لقريتنا قبل مائتى سنه وكونوا أسرة بها . وتذكر أمى كيف كان أقارب والدها يأتون لزيارته من كفرصقر وتصفهم بأنهم رجال ملء العين طوال ويرتدون الجلباب العربى الواسع والعمامة .وكانت عائلة أمى موزعة بين الزراعة والدين فكان جدى الشيخ عبد الصمد ناظرا على الأرض الزراعية لكل القرية من قبل الخواجات الذين كانواهم الانجليز الذين رأتهم أمى وهى طفلة . وكم لعبت فى سراى العمدة ببراءة وكانت ترى سيدات الانجليز خاصة فى موسم جنى القطن . والذى خصص له الانجليز سكة حديد من أبعد نقطة فى الأرض حتى باب السراى .وكان جدى مشرفا على ذلك كله من أرض ومخازن غلال ووقود وعمال يومية . أى أنه لم يمارس الزراعة بيده لأنه ( حضرة الناظر) .اما أخوالى فقد مارسوها بمهارة .
أما الفرع الأخرمن عائلة أمى فشغل مناصب الدين فى القرية من المأذون الشيخ عبد العليم زيد إلى غيره فقد كان المأذون وخطيب الجمعة فى جامع البلد الكبير الذى لم يكن سواه وقدرأيته طفلا فوق المنبر يقرأ من ورقة بيضاء وتدمع عيناه وكان من عاداته أن يسجل خطبه مكتوبة بكل المناسبات فإذا حلت مناسبة ما مثل الاسراء والعراج أوالهجرة أخرج الورق الخاص بها فقرأه على المنبر وأحيانا كان يحدث أن يأتى بكلام لمناسبة غير التى حلت وتصبح الحادثة مثار تندر المصلين أى أنه عرف الخطبة الموحدة والمكتوبة مسبقا قبل أن تجعلها وزارة الأوقاف أمرا رسميا فى يناير 2014 !.. وهو الذى كتب وثيقة زواج أبى على أمى وأحتفظ بها للأن وكان مهر أمى ثلاثين جنيها . وقد ورث عنه ابنه محمد المأذونية .
وكان يوجد فى الجامع الكبير ضريحا لجد لى من عائلة زيد فى مقدمة المسجد وله لوحة رخامية تعلوه تشير إلى وفاته ولكن مع هدم الجامع القديم وبنائه من جديد اندثر هذا المدفن بلوحته الرخامية وضاع رسم الجامع القديم الذى كان أحن وأجمل وأكثر دفئا من الجامع الحالى الذى كلما صليت فيه تحسرت على الجامع القديم الذى طالما صليت فيه ولعبت بساحته فى ليالى الصيف التى كانت تأتى دائما فى رمضان . ورغم أن القرية لم تكن تعرف لا الكهرباء ولا المياة ولا أى صور للرفاهية إلا أن الحياة كانت ممتعة والبال رايق والذهن خالى وأعتقد أنهم لم يكونوا اخترعوا الحكومة بعد ولا الفواتيرمن غاز وكهرباء ومياه وتليفون ومحمول وانترنت وتحولت حياتنا كلها لفواتير شهرية وأسبوعية أو أن الناس كانت لا علاقة لها بالحكومة إلا أيام فيضان النيل قبل بناء السد العالى إذ تضطرهم الحكومة للعمل الجماعى فى تعلية جسر النيل بمقاطف التراب حتى لا تغرق القرية ومع ذلك كان النيل يفيض من فوق الجسر كما تقول أمى وكان يغرق البيوت الطينية المطلة عليه والويل لمن تجازف بالذهاب إليه إذ كان يجرف الطشوت النحاس والحلل والأباريق بقوة موجه وأحيانا كان يجرف الأطفال والكبار أيضا !كان ماء الفيضان شلالا ومحمل بالغرغرينا والطمى وكان كل السكان يشربون منه بعد نقله إلى الزير والقلل الفخار التى كانت بكل دار وكان ( الملا ) يقوم بحمل الماء من النيل للدور نظير أجر زهيد وهو (السقا ) المعروف عند أهل القاهرة قديما قبل مد شبكات المياه النقية للبيوت . وكان يتم تنقية المياه بنوى البلح أو المشمش أو الشبه وكان طعم الماء مثل السكر .وكان كل زير محمول فوق ما تسمى ( القطارة ) وأسفلها ( بزبوز ) أوحنفية للفتح والإغلا ق عند الاستعمال . وكان ماء الزير والقلل للشرب وطهى الطعام . أما غسيل الملابس وأوانى الطعام فكان فى الترعة أو فى النيل وكانت الناس تشرب من ماء النيل أو من الترعة ومن القنوات الصغيرة وهكذا فعلنا نحن قديما . وكان هناك أكثر من ( ميضه ) وهى مكان مخصص على شاطىء النيل أو الترعة للنزول للماء بسلالم لجميع الاستخدامات ومنها الوضوء للصلاة . وعادة ما تكون إلى جوارها ( مصلى ) أو زاوية صغيرة للصلاة . طبعا هذا قبل اختراع وزارة الأوقاف وتوحيد الصلاة والخطبة والدعاء وضم كل جحر للوزارة وليس بعيدا أن يصلى المسلمون بالكروت الذكية بعد ذلك ونتحول من أشخاص طبيعيين إلى أرقام مخزنة على الكمبيوتر !    
وقد رأيت بنفسى وأنا طفل كيف كانت الترعة التى تشق القرية يجرى فيها الماء شلالا قويا رائقا أما  اليوم فهى جف ماؤها وصارت مقلبا للزبالة ومأوى للفئران وكل أنواع الحشرات ومنظرها مؤذى ويغم النفس . طبعا زمان لم يكونوا اخترعوا الحكومة بعد أما اليوم وبعد اختراعها فسنجد أن وزارة الرى تخصص كم مليونا لتطهير الترع فتذهب لجيوب المحاسيب والمدراء وتبقى الترع كما هى على اعتبار أن الزبالة هدف قومى ومشروع وطنى وعشرة عمر والعشرة لا تهون إلا على ابن الحرام وصباح الخير ياحكومة !  
وأمس فقط الخميس 13 فبراير 2014 استمعت لخبر فى نشرة التاسعة بالتليفزيون المصرى الرسمى أن لقاءا تم فى بورسعيد جمع بين وزير الزراعة ومحافظى بورسعيد ودمياط والدقهلية لتطهير بحيرة المنزلة وتخصيص 450 مليون جنيه لهذا الغرض . وأقسم أنى سمعت مثل هذا الخبر مرارا ومنذ مولدى ولا جديد بل تقلصت مساحة البحيرة وضربها التلوث الصناعى والصرف الصحى ووضع الأقوياء يدهم على مساحات شاسعة منها وحولوها لأرض يابسة للبناء فوقها وأصبح الصيادون فيها تحت رحمة التهديد ليس بقطع أرزاقهم فقط بل بقطع رقابهم بالسلاح الألى ويتم ذبح البحيرة تحت بصر وسمع الجميع وعلى رأى زوجتى فإن الهدف من مثل هذه الاجتماعات هو شرعنة الفساد وصرف الاعتمادات للكبار وإلا كانوا استعانوا برسالتها لنيل الماجستير عن بحيرة المنزلة !طبعا نحن أمة تقدس العلم والعلماء ولذلك نحتفظ بالعلم فى الأدراج خوفا عليه من البرد ونجوع العلماء ونذلهم .وقديما قال الزعيم : العلم لا يكيل بالباذنجان وتحيا الأمة العربية المهلبية ! وسنلتقى بعد سنوات والبحيرة مجرد ذكرى وأثر بعد عين وسنرى .
وعلى رأى الرجل المحترم عبد الغفار شكر الذى كان بالاتحاد الاشتراكى فى زمن عبد الناصر ثم مارس السياسة فى عصرى السادات ومبارك ومابعد مبارك وإلى اليوم وما بعد اليوم باعتبارة من شباب الثورة . قال الرجل فى مؤتمر عن الفساد وسمعته بنفسى إن بمصر ثلاثة أنواع من الفساد فقط . أموت وأعرف الأنواع الثلاثة لأنى كنت أظن أن مصر خالية من الفساد ونظيفة كأطباق الصينى بعد غسيلها . طبعا مصر مثل بقية الدول العربية طاهرة عفيفة شريفة نزيهة والمصريون كالعرب ملائكة أطهار ب 24 سلندر و360 جناحا وبما أننا خير أمة فنحن مكاننا الجنة أما الدنيا فنحن خارج خريطة العالم وصباح الخير يا عرب !    
وهنا أذكر أبياتا من الشعر  أعجبتنى للشاعر الكويتى نورى الوائلى يقول فيها :  (من ينشد الخير فى قوم بلا قيم – كزارع فوق أرض البور عرجونا – ما قيمة العلم والأخلاق ضائعة – ما قيمة الدور تحوينا أساطينا – لا يغلب السيف أخلاقا إذا حسنت – فالبيض أدنى من الأخلاق ترضينا ).
نعود للكلا م عن جدى أحسن  .. وجدى الشيخ عبد الصمد تزوج أربع مرات .. فى المرة الأولى تزوج ( ستوتة أم موافى ) وأنجب منها ( محمد والمرسى ونفيسة ) وفى الثانية تزوج بعد وفاة الأولى ( لطيفة الناغى ) ولم تنجب وطلقها . وفى الثلاثة تزوج جدتى لأمى  ( نعيمة عبد الحى سالم ) وأنجبت له ( عبد السلام ووجيدة ومطاوع وزينب أمى وأحمد ) وكانت جميلة بيضاء . وبعد موتها تزوج ( فاطمة عبد التواب ) وأنجب منه (سامية )ومات رحمه الله قبل أن يكمل 12 زوجة !
وقد رأيت زوجته الأخيرة أم خالتى ( سامية ) وعاشت حتى تخرجت من كليتى وكانت كلما ذكرته لها تحدثت عنه كما لو كانت تتحدث عن نبى مرسل أو ولى صالح ولا تتحمل عليه كلمة واحدة ولو على سبيل الدعابة. وتقول إبنة أخو جدى ( فاطمة أم معوض ) إن عمها الشيخ عبد الصمد رأى عندها ( فاطمة عبد التواب ) وكانت ممتلئة بيضاء وشعرها الأسود إلى أسفل ظهرها فسأل عنها وعرف أنها بنت ( الريس عبد التواب ) الذى كان يبيع الرمل ويستقبله من المراكب إذ كانت وسيلة النقل الوحيدة تقريبا عبر القرى . المهم احتال جدى وطلب من أبنة أخيه أن تستدعيها بأى حجة فجرت خلفها ونادت عليها أن تعود لتحمل عليها مرتبة السرير كى تخرجها تتشمس فعادت وفوجئت بجدى يصافحها ويضغط على يديها ويقول لها ( ازيك يا أم عبده ) وكانت الشرارة ..
ذهب جدى لشقيقته ( أمينه ) واستشارها فى الأمر ومساء أخذ شقيقه وأقاربه لبيت الريس عبد التواب وطلب يد ابنته فرد بأن جدى بيت فلاحين وفيه مواشى وزريبه وخلافه وابنته كان سبق لها الزواج فى مصر ومطلقة ولا تعرف شيئا عن حياة الفلاحين فرد جدى أنه ناظريرتدى الحذاء والشراب فى قدميه ولا يعمل بالارض  بيديه . فنادى الريس عبد التواب على ابنته وقال لها إن الشيخ عبد الصمد يريدأن يتزوجك فقالت : (موافقة يا با ) فعاد يقول لها إنك ستربطين حمارته وتمسحين تحت المواشى فردت ثانية :( موافقة يابا ).وتم الزواج وغرقت هى فى صفائح القشدة والسمن البلدى واللبن والخير والبركة ورحل جدى بعد أن كان غرس أخر بذرته خالتى سامية .        
كان جدى  يعول أقاربه من الفقراء رعاية كاملة لدرجة أن أمى تشهد له بأنه كان يمر عليهم جميعا بعد صلاة الفجر وكان اللبن الطازج والقشدة والسمن البلدى وكل ما تجود به الأرض من فول وأرز وقمح وبصل وخيار وقرع وباذنجان و.. لابد أن يوزع على الجميع وكذلك السمك الذى يصطادونه من الترع والقنوات . لذلك تذكر أمى جدى وكأنها تتكلم عن أحد أولياء الله الصالحين .وكان يرتدى زى مشايخ الأزهر من جبة وقفطان وعمامة ومسبحة طويلة وعصا وشمسية لحمايته من الشمس ويركب الحمار أو ( الكارته ) وهى عربه تشبه الحنطور يجرها حصان وتذكر أمى أنه كان بالليل يجلس على أريكته وأولاده أسفل قدميه وعلى ضوء اللمبة الجاز نمرة عشرة يطلب من خالى عبد السلام أن يأتى بأحد كتب الدين كالبخارى أو تفسيرالقرأن  ويطلب منه أن يقرأ لهم منه .وأحيانا يطلب من أمى أن تسمع له ما أخذته فى المدرسة من قرأن ويصحح لها النطق وما تتذكره مراجعته لها فى سورة ( ويل لكل همزة لمزة ) .  ورايت بنفسى مدافن عائلة أمى القديمة قبل تجديدها وتعلوها قبة ضريح  . وكان أبى كلما كان راضيا عن أمى ذكرلها أن جدها النبى كما سمع من أبيه .
ورأيت بنفسى عمة أمى واسمها ( أمينه ) وكانت متزوجة فى بيت ( الا تربى ) وأصل الكلمة ( اليثربى ) لأنهم من يثرب بالجزيرة العربية أساسا . كنت طفلا وأخر العنقود فكانت أمى تعلقنى أو تسحبنى فى يدها إلى كل مكان .. إلى البحر وإلى (المرشح ) وهو حنفية عمومية كانت تتوسط القرية قبل دخول المياة النقية للبيوت وكانت أمى تذهب إليها ليلا حتى لا يراها الناس . هكذا كان الحياء والاحتشام زمان . أى لا يصح أن تخرج للمرشح نهارا .وقبل المرشح كانت تذهب للنيل ليلا أو فجرا وكم تحمل ذاكرتها من حكايات الجن والعفاريت الذين كانوا يعترضون الناس ليلا . وكم من غريقة فى النيل قيل إن الجن جذبها للماء وتزوج منها . وكنت أسير معها حاملا بعض الحلل ولمبة صغيرة جدا تعمل بالجاز نسميها ( وناسة ) وكانت نمرة خمسة . وبعد انتهاء واجب الغسيل اليومى للملابس والحلل تقوم أمى بعملية استحمام لى ثم نعود للبيت فى الظلام الدامس كما خرجنا وأن أحمل معها الحلل والثياب وعادة ما كانت الوناسة تنطفأ بفعل الهواء ونعود متعثرين فى الطريق .
ولا زلت أذكر (أمينه ) عمة أمى حاليا كما لو أنى أراها الأن .. كانت شديدة البياض . أميل للقصر والبدانة وكانت تجلس على سرير نحاس قديم مرتفع عن الأرض . وكان السرير غاية فى البياض والنظافة . وكانت تأخذ أمى بالحضن وتتذكر شقيقها الشيخ عبد الصمد وتظل تذكر مأثره والكلمة التى لا أنساها وكانت تتردد على لسانها باستمرار هى : (يانن عينى ياعبد الصمد ) وهى تبكى . وأشهد أن عائلة أمى كان فيها حنان غير طبيعى لم أره بعد ذلك أبدا إلا فى أمى التى وصفتها زوجتى بأن حنانها مدلدق أى لا حد له وهى كذلك بالفعل وقد مرت أمى لاحقا بعد موت أبى بابتلاءات ومصاعب تكسر الجمل وتهد الجبل خرجت منها سالمة بفطرتها وإيمانها القوى بالله وتسليمها المطلق لله وأنا أحسدها على إيمانها هذا الذى يفوق برأيى إيمان علماء الدين الكباروأعدها من أولياء الله الصالحات  .
ولكن كيف تعلمت أمى القراءة والكتابة فى هذه البيئة ؟ وماعلاقتها بالمدرسة ؟ وما ذكرياتها عنها ؟..هذا ما سنعرفه فى الفصل القادم .



الاثنين، 3 فبراير 2014

(4) الشيخ بلال أبو التعليم

كانت قريتنا قديما ليس فيها إلا مدرسة ابتدائية واحدة هى التى تعلمت فيها أمى وتعلم أبى وتعلم أخوتى وتعلمت أنا فيها أيضا . كانت جميلة فسيحة وبها حوش كبير يتحول فى حصة الرياضة إلى ملعب لكرة القدم وكان بها حديقة جميلة ومصلى للصلاة وحمامات نظيفة . وكانت من دور واحد وتجرى أمامها الترعة التى تشق البلد وكنا نصنع المراكب الورق ونلقيها فى الماء لتسبح ونتسابق فى صنع مراكب كبيرة وقوية .
أما الأن فالمدرسة أشبه بالسجن . صارت من أربعة أوخمسة طوابق واختفى الحوش والحديقة والمصلى لحساب مبانى الأسمنت المسلح لمواجهة الأعداد المتزايدة من التلاميذ .وصارت الترعة مأوى للزبالة والبعوض والفئران . واختفت كل ملامح الجمال ليحل محلها القبح والعشوائية لدرجة كلما نزلت قريتى تحاشيت النظرإليها
ورغم أنه صار بالقرية نحو عشرة مدارس .. ابتدائى واعدادى وثانوى وتجارى وأزهرى . إلا أن أول وأقدم مدرسة تظل مثل الحب الأول . وأول دقة قلب . وأول لمسة لأصابع المحبوبة . وأول نظرة هيام لعينيها . لم يكن بالقرية  لعقود غيرها . وبعد سنوات بنيت فى ( رأس الخليج ) مدرسة شوقى العريان الاعدادية ثم مدرسة الدكتور إبراهيم أبوالنجا الثانوية الذى أسس ورأس كلية طب المنصورة وكان ابن بلدتنا .
وقد تعلم بمدرسته أبناء كل القرى المجاورة لسنوات فى وقت لم يكن فى مركزشربين كله إلا مدرستنا ومدرسة أخرى فى المدينة وكانت المدرسة كبيرة جدا ولها حوش كبير وملعب أكبر وكانت نظيفة وكان المدرسون فى أغلبهم أهل عطاء وأمانة وجدية إلا فيما ندر وقد نجحت وزملائى فى الفوز بكأس أوائل الطلبة على مستوى الجمهورية فى السنة التى كنت بها فى السنة النهائية فى الثانوية العامة وكانت سنة 1986ويوم أعلنت النتيجة النهائية أخر العام عرفتها من الصحف إذ نشر اسمى فى الصحف وعج بيتنا بالصحافيين لمقابلة هذا الطالب الذى هو أنا وتملكنى الخجل فذهبت لشجرة كنت أحب الجلوس أسفلها لساعات بين الحقول وأمضيت يومى فى التأمل وقام أبى بالمهمة نيابة عنى ..المهم هذا موضوع قد أعود إليه يوما ولنعد إلى قصتنا الأصلية ولكننى فقط أردت أن أشير سريعا للفارق الشاسع بين التعليم قبل ثلاثين سنة والتعليم الأن الذى صار تجارة وبيزنس وسباق محموم للحصول على الشهادة وليس للتعلم . وهذا حال كل أمورنا الأن اختفت القيمة الأدبية والوجدانية والعلمية والشعوربالمسؤلية والواجب لدرجة أننى عندما أتكلم عن الضمير يتهمنى بعض أقاربى بأننى من زمن أخرودائما ما يقول لى أخى الأكبر وهو من أكابر رجال التعليم (انسى جيلك انتهى ) وهذا حديث ذو شجون !  
الكتاتيب
فى مثل هذا الجو كانت الكتاتيب هى معقل التعليم الأول وهى المنبع والمصدر الخام واللبنة الأولى للتعليم . وكان أقدم كتاب بقريتنا للشيخ بلال عبد الجواد وهو الذى علم أبى وأمى وكل رجال ونساء القرية . كان بيته قريبا من شاطىء البحر أى النيل ولا يفصله عنه غير نحو خمسين مترا . وكان البيت من الطوب اللبن ويرتفع عن الأرض نحو نصف متر . وكان حوش الدار وإحدى غرفه هى مكان الكتاب . حيث يجلس الصغار على حصير مهترىء ومتواضع . وبأيديهم الألواح الخشبية يكتبون عليها وأمامهم السبورة . والشيخ بلال يقرأ القرأن والصغار يرددون من خلفه . وكان الشيخ بلال هو معلم القرأن ومعلم مبادىء الحساب  والقراءة والكتابة وكم حفظ كثيرون القرأن على يديه . وكم تتلمذ على يديه أولاد نجباء صاروا لاحقا أساتذة جامعات مثل الدكتور عبده الراجحى وكان أستاذا للأدب العربى بجامعة الاسكندرية  والشاعر عزت الصياد والأديب كمال الدابى وغيره من الأطباء والمهندسين .
كان الشيخ بلال أميل للقصر والامتلاء . أبيض البشرة . نقى صالح نفع الله به كثيرون . وكان ابنه الأستاذ محمد بلال مدرس اللغة العربية هو خطيب الجمعة بالجامع الكبير بعد وفاة الشيخ عبد العليم زيد الذى يمت بصلة قرابة لأمى .
وكان الشيخ بلال مدرس الدين بالمدرسة الابتدائية وهو الذى علم أمى وزميلاتها كيفية الوضوء والصلاة وكان يؤمهم فى صلاة الظهر بالمدرسة بعد أن يطلب منهن إحضار فوطة أو إيشارب  لوضعه على الشعر والرأس . وكلما جاءت سيرته ذكرته  أمى بالحب والتبجيل . ولا ينكر أحد فى القرية كلها فضله على كل الأجيال . وإذا كان رفاعة الطهطاوى وعلى مبارك من بعده هما رواد التعليم فى مصر فإن الشيخ بلال كان رائد التعليم فى قريتنا وقام بدور وزارات التعليم والثقافة والأوقاف والثقافة معا . ولو كان فى عصورنا الميمونة هذه لاعتقلوه بتهمة الا رهاب لأنه يعلم التلاميذ الوضوء والصلاة فى المدرسة ويؤمهم فى الصلاة !
كان الشيخ بلال ابن زمن البركة والفطرة السليمة والصحة والسعادة والقناعة والعطاء بلا حدود قبل أن تخترع الحكومات العربية  الأغانى الوطنية وهات يا غناء وهات ياكسل ولهو وهمبكة ونفاق . وقبل أن يظهر القادة العظام الذين جمعوا كل مراكز الحكم فى أيديهم من الجيش للقضاء للإعلام للتعليم ..حتى الكرة استولو عليها وأمموها وكذلك الغناء والأوبرا وأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم ومحمد فوزى .. والله أمموا شركته لإنتاج الكاسيت بحجة أنه رأسمالى عدو للثورة حتى مرض الرجل ومات !
وعن هذا العصر قال هرقل الأدب العربى عباس العقاد : ( إن الله لن يحاسبنى يوم القيامة لأنى عشت فى زمن جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين ) !
هكذا جاء فى كتاب أنيس منصور ( فى صالون العقاد كانت لنا أيام ) وهو كتاب قيم جدا وجميل جدا وقد قرأته أكثر من مرة . وجاء فيه أيضا أن صلاح سالم أحد ضباط ثورة 23يوليو 1952جمع فى يده عدة وزارات وفوقهم رئاسة صحيفة الجمهورية ونقابة الصحافيين !
هكذا نحن العرب لابد أن يكون عندنا الرجل المظلة أو شيخ القبيلة أو الفرعون الذى يحتكركل شىء لنفسه والجميع من حوله أصفار !
كان الكتاب بندا ثابتا لابد أن يمر به أى طفل مثل ( الدودة ) تماما لابد أن يسرح جميع الأطفال فى الاجازة  الصيفية لتنقية دودة القطن  وكأنها مرحلة فى النمو مثل الرضاعة والطفولة المبكرة . وقد دخلت كتاب الشيخ محمد أبو يوسف مؤذن ومقيم الشعائربالجامع الكبير وكم فرك أذنى بقطعة الطباشير لدرجة أنها كانت ستخرج فى يده . وكم نلنا الضرب بجلدته السميكة خاصة عندما نحدث ضجيجا كلما كان يغفو قليلا . ومرة مربنا فأر فأصابنا الذعر كأطفال صغار فأعمل فينا الضرب بلا هواده .
مدرسة التعذيب
وعندما التحقت بالمدرسة الابتدائية كان التعليم بالنسة لنا حصة للرعب  .وكانت المدرسة مكانا للعقاب والعنف والسادية من قبل مدرسين أقرب للجزارين يستمتعون بضربنا بالخيرزانة وبالشلوت وبالأحذية فمنا من فتحت رأسه ومنا من جلد ظهره وكأنه أحد المسلمين الأوائل وقد وقع فى يد كفار قريش وعتاولة الشرك . ومنا من كان يقضى معظم اليوم الدراسى فى الحمام هربا من الحصص وما يجرى فيها من سلخ وتعذيب وسادية . ومنا من أخذها من قصيرها وترك المدرسة والتعليم بلا رجعة واستراح . وهذا ما يسميه أفندية الوزارة : التسرب من التعليم !
أما من صمد مثلى فقد رأى العجب العجاب وخذ عندك بعض الأمثلة .. كان طابورالصباح مصيدة لنا بحجة أن أظافرنا أو شعرنا أطول من اللازم .وكان الضرب بعود الخيرزان أو بقطعة عريضة من الخشب على ظهر اليد والأصابع وليس على راحة الكف وأحيانا كان المدرس يطلب منا أن نمد أيدينا على شكل حبة الكمثرى لنتلقى العقاب على أطراف أصابعنا . ولكم أن تتخيلوا طفلا دون العاشرة يجلد على ظهره أو على ظهر أصابعه فى عز البرد كيف يكون شعوره تجاه مدرسته ودورها التعليمى التربوى المعنوى التعبوى !
والمأساة أن نشيد الصباح كان يتنافى تماما مع ما نلاقيه . إذ كان يبدأ هكذا : ( نشأنا فى الدقهلية - على خير وحرية – نحيى مجدنا فيها – وفى دار ابن لقمان أسير ..) .أى مجد أوخيرأ وحرية ؟!
أبله بدور
وكانت لدينا مدرسة أتوا بها من المنصورة تدعى ( أبله بدور) .فائقة الجمال . ملفوفة القوام . أشبه بنجمات السينما أو ملكات الجمال . وكانت مصدر صدمة لنا إذ لم تكن النساء هكذا فى قريتنا . فالساقان مكشوفان والشعر مع المكياج جعل منها عروسة فى ليلة زفافها . وكانت مثار حديث كل الرجال وبعض الصبية العفاريت الذين كانوا يقولون : ( الغازية وصلت ) والغازية فى الريف هى الراقصة من الغجر !
كانت أبلة بدور تخرج من حقيبتها شيئا أشبه بالسيجار لا نعرف اسمه ولا ماهو وتظل تأكل فيه قطعة قطعة ونحن فى ذهول . ولم أعرف أن هذا الاختراع اسمه ( الممبار ) إلا عندما حضرت للقاهرة وعرفت طريقى للمسمط  الشعبى  فى حى الحسين وحى السيدة زينب . لم يكن هذا النوع من الطعام معروفا عندنا ولا حتى الأن ولا يزال منظرها وهى تأكل هذا الممبار البنى اللون لا يفارق عينى أبدا وكأنها كانت تأتى فعلا من أفعال السحر .
كانت أبله بدور تأمرنا بأن نأتى لها بالبيض البلدى من بيوتنا فى الغد .فنذهب نبكى لأمهاتنا قائلين : الأبله عايزة بيض . فترضخ الأمهات . ونذهب فى الصباح وفى يد كل منا كيس بيض للأبله . أما التغذية المدرسية من جبن نستو وحلاوة طحينية فكانت الأبله لها بالمرصاد وبمجرد استلامنا لها تقول لنا : ( اللى بيحب الأبله يجيب لها الحلاوة والجبن ياأولاد ) فنجرى وكأننا فى سباق لوضع الحلاوة والجبن على كيس فرشته أمامها . ومن كان يجرؤ ألا يحب الأبله ؟
أما داهية الدواهى فأنها كانت تربوية معملية بحق . باختصار كانت ( ملعب ) أو قل ( مبحبحاها حبتين تلاته أربعه ) فكان إذا جاءها أحد المدرسين لزوم الخمسه الفرفشه قالت لنا : ( اعملوا قمر يا أولاد ) . أى أن نضع رؤسنا بين أيدينا فوق التخت ونغمض عيوننا. فإذا فرغت من القبلات والأحضان و.. قالت لنا : ( اعملوا شمس ياأولاد ) . أى نرفع رؤسنا ونفتح عيوننا . وكان بعض الأولاد العفاريت يختلسون نظرات خاطفة مسروقة بأن يوقع أحدهم القلم الرصاص على الأرض ويمثل أنه ينحنى ليتقطه . ثم يحكى لبقية الأولاد فيما بعد ما أشبه بالأساطير الغامضة . لم نكن قد عرفنا الجنس ولكننا كنا ندرك أن كل ( قمر) وراءه قلة أدب .وكل ( شمس ) معناها أن الأبله عادت لدورها التعليمى التربوى التعبوى الذى لا أذكر منه شيئا !
المبنى للمجهول
لاأذكر شيئا من التعليم حتى فرغت من الاعدادية بدون مبالغة . ولا أعرف كيف نجحت فى الابتدائية ثم الاعدادية . وكل ما أعرفه أن أبله بدور كانت تجمع منا التغذية المدرسية وتأمرنا بإحضار البيض من بيوتنا لحضرة جنابها . ثم فى الاعدادية كان الفصل كله يحصل على درس خصوصى خارجى فى اللغة الانجليزية عند أستاذ يدعى بدير من قرية ( الظهرية ) المجاورة لبلدتنا إلا أنا .وكان لابد من إخضاعى فكتب جملة بالانجليزية على السبورة وطلب منى أن أحولها من المبنى للمعلوم إلى المبنى للمجهول . ولما كانت صعبة ومعقدة عجزت فظل يضربنى بالعصى والأيدى والأقدام وكأننى لص أومجرم شديد البأس  أو مسجل خطر وقع فى أيدى الشرطة ثم أمرنى أن أنتظره خارج الفصل عند باب حجرة الناظر . وكان الناظر من المنصورة طويلا مخيفا أصلع له ملامح الدكتور ايوب مخترع الفنكوش فى فيلم عادل إمام وميرفت أمين . ولما رأنى قال : (وقعتك سودة ) . وكان ممسكا بعصا أطول منى مرة ونص . فأصابنى الذعر وقلت فى نفسى : ( ضرب جوه وضرب بره ) وانتهزت أن باب الحوش كان مفتوحا وهربت واحتميت فى البيت حيث لا تطولنى يد مدرس ولا ناظر !
وعرفت من زملائى أن الناظر أمسك بالميكروفون فى طابور ما بعد الفسحة  وتلى قرار فصلى أسبوعا من المدرسة لأنى هربت وقفزت من فوق سور المدرسة . وبالفعل جاءنى خطاب الفصل وكان أسبوعا جميلا استرحت فيه من العذاب الأزلى الذى هو المدرسة .وكنت أحسد الأولاد الذين تسربوا من التعليم من بدرى وارتاحوا وللان لا أستطيع تحويل الجملة من المبنى للمعلوم إلى المبنى للمجهول ولا أعرف ما الفرق بينهما ولماذا نحولها أصلا كما لا أعرف متى يتحول الحال إلى مصدر ولماذا  وهذة العقدة بدأت  معى منذ الاعدادية !
عقلى
أما مدرس الرياضيات فكان يكتب على السبورة رقما حاصل ضرب أو قسمة أوجمع أو طرح . والمطلوب منا أن نحل اللغز فى ثانية . وكانت المسألة اسمها ( عقلى ) . وكان أغلبية الأولاد يذهبون للحمام هربا من حصته . وكنت أخشاه وعصاه الطويلة . وخوفا من بطشه ذهبت إلى درسه الخصوصى صباح كل يوم . وكان يلقننا حل مسألة ( العقلى ) يوميا قبل أن نذهب للمدرسة . فأظل أرفع يدى طول الحصة : ( أنا يا أستاذ .. أنا يا أستاذ ) . ونعم العملية التعليمية التربوية البطيخية . أليس هذا هو الغش يامرسى وغرسه فى عقول الصغار ؟
وفى الثانوية العامة فكرت أن ألتحق بالطب أوأن أصبح  مخترعا ولكن مدرس الرياضيات عادل عفيفى استولى أيضا  على كل الفصول فى درسه الخصوصى عدا أنا وإيهاب نورى فقط فنالنا الصفر لأربعة شهور متتالية فى جدول أعمال السنة  وشكوت لأبى وكان المدرس يمر على بيتنا وخفت أن يعترضه أبى أوأن  يؤذيه فوجدته أخذه بالسياسة واستضافه فى بيتنا مع زجاجة الكاكولا و ذهبت لدرسه بالنهاية فعدل جميع درجاتى من صفر إلى امتياز ونعم الضمير التربوى التعبوى !..
ابن خلدون
أما مدرس الفلسفة فكان حشاشا بالليل  ويأتينا بالنهار  وهولا يستطيع أن يفتح عينيه من السهر . وكان لا يقدر على التركيز . ولا يعرف منهجا .ولكنه كان ظريفا جدا ومحبوبا من كل الطلبة والمدرسين  وذات مرة ضرب الناظر بالحذاء وسب التعليم والوزارة والبلد لأن الناظر عاتبه على التأخير وكان الناظر مستجدا جاءنا من المنصورة ولم يعرفه بعد . ومرة أخرى سألنى : ( عندكم إيه يابيلى النهاردة ؟) . فقلت له : ( ابن خلدون يا لأستاذ ) . فقال : ( ابن خلون كان راجل طيب ياأولاد وأنا عايز أطلع منكم كل واحد زي ابن خلدون ) . ثم يتكلم عن النساء وعن الكرة وعن أى شيء ونحن غارقين فى الضحك . وهو مستمتع معنا حتى يضرب جرس الحصة . وكانت حصته من أمتع الحصص وننتظرها بفارغ الصبر لنخرج من معتقل المغول أى من كأبة وغل وسادية المدرسين وممارسة هوايتهم فى تعذيبنا !
هكذا تعلمت فى مدارس هى سجون حديدية ومدرسون هم مرضى نفسيون وساديون . وكنا نخرج فى نهاية اليوم الدراسى كعصافير انطلقت من محبسها . لذلك أقول لا أمل فى أى إصلاح فى مصر ولا فى غيرها من الدول العربية لا يبدأ بالتعليم . وهذا لا يتنافى مع وجود نماذج أخرى مضيئة وأمينة وجادة .ولذلك قلت إن الشيخ بلال كان أبوالتعليم فى قريتنا وكان الرائد الحقيقى الذى غرس القيم والقرأن والتربية والسلوك فى العقول قبل أن يغرس ألف باء . ولذلك تجيد أمى اليوم القراءة والكتابة وهى دون الشهادة الابتدائية بينما يتخرج طالب اليوم من الثانوية أو الدبلوم وهو لا يجيد كتابة خطاب أو قراءة صحيفة أونطق اللغة نطقا صحيحا !