يوميات الثورة المصرية(1)
أقصد بالبركان هنا خلع مبارك وأركان نظامه
المستبد الجبار . هذا النظام الذى لم يقف عند حدود الظلم وانتهاك حرمات المواطنين
بل عمد لتجريف مصر من الرواد والخبرات والموهوبين وإقصاء أى فصيل أو فرد يشكل مجرد
تهديد ولو كان كامنا لأعمدته وأذرعه التى اعتمدت على الامن ثم الامن ولا شيىء غير
الأمن لدرجة أن تعيين فراش بمدرسة أو مسجد كان يخضع لموافقة جهاز أمن الدولة فما
بالكم بتعيين معيد بالجامعة أو قاضى أو صحفى !
وبلغ من سيطرة مبارك على كل شيىء أنه صار
يستهين بالمصريين ويحتقرهم علانية .والدليل الصارخ على ذلك يوم زور إرادة الشعب فى
انتخابات مجلس الشعب فى 2010 تزويرا مفضوحا وعندما أخبروه ان المعارضة تنوى تكوين
برلمان موازى قال جملته الشهيرة ( خليهم يتسلوا ) !
كان مبارك يؤمن بالأمن إيمانا كاملا ورغم أن
السماء أرسلت إليه إشارات تلو إ شارات كى يصحو ضميره إلا أنه كان قد بلغ به
الكبرياء حدا لم تعد تنفع معه الإشارات ولعل الصدمة الكبرى التى نزلت به يوم مات
حفيده ( محمد علاء ) وظن الناس أن الرجل وقد ذاق الحزن وتجرع الالم مثل من مات
اولادهم فى مراكب الهجرة غير الشرعية او فى حادث احتراق قطار الصعيد .. ظنوا ان
الحاكم الذى كبس على قلوبهم ثلاثين عاما قد يتغير وقد ينزل من عرش الفرعون إلى
مصاف البشر إلا انه خاب ظنهم فيه كما خاب ظنهم فى كل مرة توقعوا منه فيها عدلا او مروءة!
لقد جعله ( حبيب العادلى ) يسكن فى عقل كل
مواطن بتجسسه على جميع القوى السياسية والاحزاب والكتاب والقضاة والمحامين والشيوخ
والقساوسة . اكثر من هذا كان مبارك يتجسس على كل وزرائه وحاشيته ولم يكن يأمن لأحد
ويقينى أنه كان قد أمن أن مصر ماتت ودفن جثتها وأنه لم يعد مطالبا بأن يتحمل عبء المسؤولية
ولا حتى مجرد التفكير فيها .. فجوقة الإعلام تعزف لحنا واحدا ليل نهار عن حكمة
الرئيس صاحب الضربة الجوية والارضية والبحرية والنووية وقل ما شئت من كلام لا يعنى
شيئا غير ملء الوقت وقلب الحقائق . اما فى القضايا السياسية فقد ربط مبارك نفسه بأمريكا
وإسرائيل رباطا أبديا ونفض يديه من كل ما عدا ذلك لدرجة أنه استراح فى ( شرم الشيخ
) اللهم عدا مقابلة ما كل فترة كنوع من ( الحركة فى المكان ) وتمثيل الدور المنوط
به على خير وجه .وأحاط نفسه وولديه وزوجته بمجموعة منتقاة من رجال الأعمال فى
تزاوج صارخ بين ( السلطة والثروة ) وهو أمر عده علماء المسلمين ممن كتبوا فى نظم الحكم والولاية مفسدة ونهوا عن
الجمع بين ( الإمارة والتجارة ) وأخر من تكلم فى ذلك ( ابن خلدون ) .
وبلغ اليأس بمعارضى مبارك حدا أصبحوا فيه فى
غم وهم فالرجل لا يجدى معه دعاء عليه فى جوف الليل ولا محاولات لقتله، ونظامه يحظى
برعاية أمريكية وأوربية ودولية لم تحظ بها سوى إسرائيل . وكنا نتندر عليه فى
بيوتنا وفى الغرف المغلقة قائلين : ( إنه لا يمرض ولا يموت وإنه مريض بالصحة و إن
القيامة ستقع وهو جالس على عرشه يسخر من الجميع بحركات من لسانه ) !
وكنا نتهكم بأن مصر قسمت على مقاس مبارك ولم
يعد هناك أمل فى الطموح أو الترقى أو الأكل الحلال . وأن كل إنسان مخير بين أربعة
خيارات .. إما ان يهاجر من مصر او يلتحق بالحزب الوطنى الحاكم او يعيش مثل
الملايين صامتا مقهورا ( كافى خيره شره ) . وأبدع المصريون كعادتهم فى التنكيت
بإطلاق عشرات النكات الساخرة على مبارك وعائلته المالكة الجديدة التى غلبت بطول السنين
كل من حكموا مصر من عهد الفراعنة إلى عصر الملك فاروق أخر سلالة محمد على باشا
التى حكمت مصر مائتى سنه !
ونجح مبارك فى القبض على مصر لسنوات لم
يضاهيه فيها لا جمال عبد الناصر ولا السادات . لقد فاق سابقيه كلهم واصبح وكأنه
قدر مكتوب نزل من السماء ولا ردله !
لذلك كله أطلقت على ما جرى فى 25 يناير 2011
وصف البركان فقد كان الامر فوق خيال اى مواطن مصرى وكان خلع مبارك كالمعجزة التى
باركتها السماء رحمة بشعب مصر وبعدما بلغت الروح الحلقوم وظن الناس أنه لا رئيس
بعد مبارك وانصرف بعض من فهموا نظامه لحال سبيلهم وانفضوا من حول إعلامه ومؤتمراته
!
لقد راودتنى حقا فكرة الانضمام للحزب الوطنى
الحاكم لا طمعا فى منصب أو غنيمة بل درأً للأذى أو التعرض بسوء وكان ذلك قمة اليأس
عندى من ظهور أية بوادر للإصلاح أو التغيير ولكن تسارع الاحداث ودلالات بعضها
الجازمة أكدت لى أن مصر لم تمت ومحال أن تموت وأن مخزون الغضب ونار الثأر عند
المصريين قادرة ليس على خلع مبارك وحده بل كل أركان نظامه وأذرعه الأمنية . وظهر حجم
مبارك الحقيقى أنه ليس أكبر من ( كنز استراتيجى لإسرائيل ) وصبى صغير فى ( لعبة
الأمم ) وانه مثل كل من تعاقب على مصر من فراعنة ( استخف قومه فأطاعوه ) .وأنه فى
مواجهة الخطر الحقيقى تضاءل لأصغر من فار خائف يحاول الهرب بجلده وانه لم يكن أسداً
ولا ثعلباً فى يوم من الايام !
وفى الحلقة القادمة اتكلم عن مبارك الذى
رأيته كواحد ممن حضر بعض مؤتمراته. وأتكلم عن عودة الوعى كما قال ( توفيق الحكيم )
او اللحظة الفارقة التى اكتشفت فيها حقيقة مبارك ونظامه الذى احتل مصر وقهر شعبها
. واتكلم عمن أكون أو موقعى من الاحزاب والقوى السياسية وعن خلفيتى العائلية والسياسية
والاقتصادية والاجتماعية والدينية .وفى كل الاحوال انا لا اروى تاريخا بل مزيجا من
الشخصى والعائلى والمهنى والعام . ولا اسرد سردا زمنيا فليس غايتى التوثيق
التاريخى بل توثيق ما جرى ويجرى من زاويتى الخاصة . وعلى كل انا أرى ان ما جرى
للان هو مجرد تغيير سياسى محدود فى قمة هرم السلطة فى مصر ولم يأت التغيير بعد على
جميع أركان نظام مبارك ولا أليات عمله ولا انعكس التغيير على حياتنا بكل مناحيها
.وقد تكون هذه طبائع بعد الثورات . وأحسب أن العجلة دارت ولن تعود إلى الخلف وما
كنا نحلم أو يخطر ببال أكثرنا خيالا ان ينزل الديكتاتور مبارك عن عرشه وهو ما جرى
فى مشهد اقرب للمعجزة والوحيد الذى رايته على يقين بان مبارك سيرحل لا محالة هو
أخى الاوسط ولذلك قصة سأحكيها لاحقا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق