الأربعاء، 26 ديسمبر 2012

ما بعد البركان- يوميات الثورة المصرية ( 3)



لا زلت اتحدث معكم عن اهتمام نظام مبارك اولا وأخيرا بالأمن ولا شيء غير الأمن حيث تم اختصار مصر بتاريخها وعظمتها فى جهاز (أمن الدولة ) . وأصبحت جميع التعيينات لجميع موظفى الحكومة تتم عبر الجهاز من أصغر فراش فى مدرسة إلى الوزير . وأصبح مسؤل الأمن فى كل محافظة ومدينة هو الحاكم الفعلى لها . وأكثر من ذلك صار الأمن يتحكم فى العاملين فى القطاع الخاص . يرهب ذلك الشخص . ويغلق مؤسسة شخص اخر .و يساوم ثالثا على دفع مبلغ من المال كإتاوة بدون وجه حق .واصبح مجرد رفع مسؤل الأمن لسماعة تليفونه يعنى إنهاء ملف أو موضوع أو فتحه بالأمر .
أسطورة الأمن
وتشعبت دولة مبارك الأمنية وتغلغلت فى الإقتصاد والرياضة والفن والصحافة والطب والجامعات والمساجد والكنائس ولم تعد مقصورة على النشاط السياسى او الأحزاب أوالمعارضة الساسية للحكم . وتحول الأمر لظاهرة بمعنى أنه لم يعد سرا تدخل الأمن فى كل تفاصيل الحياة فى مصر بل اصبح شائعا وتحول لظاهرة معتادة . وهذا مكمن الخطر حتى على نظام مبارك نفسه لأن كل مواطن صار يوقن أن مصيره متعلق بتقرير من الأمن . ولا تعيين لمدرس أو إمام فى مسجد أوعضو باتحاد طلاب أى جامعة دون موافقة الأمن .ثم لا يستطيع المعين مهما كانت قدراته ومواهبه ان يبدع أو يتفاعل مع محيطة دون موافقة الأمن ورضاه وإلا كانت العواقب وخيمة على من يغامر بالعمل مستقلا . إذ لا مكان فى دولة مبارك للإستقلال أو الخصوصية أو التألق خاج الدائرة المرسومة لكل مواطن .
وأدى هذا الامر لخلق أسطورة الأمن وصناعة صورة ذهنية عن رجل أمن الدولة كرجل سوبر ومخيف وقادر على كل شيء . واصبح الضابط العامل فى الجهاز يتصور نفسه ( نصف إله ) يأمر فيطاع وانهالت عليه الأموال من كل اتجاه و الهدايا واصبح معروفا وشائعا أن يقبض ألاف الجنيهات أو الدولارات وأحيانا الملايين من أصحاب النفوذ لقضاء حوائجهم أو التخلص من خصومهم أوتلفيق القضايا ضدهم . وبذلك تخلى الأمن عن دوره الأصلى للعمل لحساب اشخاص او مجموعات مصالح تكونت وتشعبت واستفحلت وتداخل نهب أراضى الدولة مع التجارة فى السلاح والمخدرات وتسهيل الدعارة واستيراد أغذية وسلع مغشوشة وإغراق أسواق مصر بها .وازدهرت تجارة الأثار. ولم يعد يخجل اللص أو تاجر المخدرات أو المهرب مما يفعله بل حصل على غطاء أمنى يكفل له الحركة بكل حرية وأكثر من ذلك أن تفتح له جميع الأبواب المغلقة والسيادية وسدت جميع منافذ الأكل الحلال والترقى الطبيعى بحسب كفاءة ومجهود كل مواطن .
ولم يعد أمام اللصوص ومن نهبوا الأراضى و تجاروا بالأثار والمخدرات غير أن يلتحقوا بالحزب الوطنى الحاكم وقد فعلوا ومن بوابة الحزب دخلوا على البرلمان فاصبحوا أعضاء به وخطورة ذلك أنهم صاروا يشرعون لمصر ويضعون القوانين و كلما مررت الحكومة قانونا وأراد ( احمد فتحى سرور ) -  رئيس البرلمان المفضل عند مبارك والذى احتكر مقعده لعشرين عاما - أخذ التصويت عليه كإجراء شكلى رفع هؤلاء الاعضاء أياديهم بالموافقة وكونوا (أغلبية مصطنعة ) . وأصبحت النخبة السياسية والإقتصادية و ايضا الإعلامية والرياضية والفنية و الدينية متورطة لأذنيها مع مبارك ( الأب والإبن والسلطانة الأم _ اقصد مبارك وولده جمال وزوجته سوزان ) .
وانتهت مشاهد المعارضة الحقيقية ورموزها من أمثال ( إبراهيم شكرى وممتاز نصار وحلمى مراد وعادل حسين ومصطفى شردى ) وغيرهم ليحل محلهم معارضة ديكورية وتمثيلية مدفوعة الأجر .. نعم معارضة تقبض ثمن معارضتها وأحيانا قبل أن تمثل دورها المنوط بها !
وظهر ( نواب القروض ) الذين اقترضوا من البنوك الملايين دون ضمانات أو بضمانات وهمية ولم يردوها . وظهر ( نواب النقطة ) الذين تم تصويرهم وهم يرمون الدولارات على الراقصات فى الملاهى الليلية . وظهر ( نواب الكيف ) الذين طالتهم شبهة الإتجار بالمخدرات . وانتشرت السيديهات الجنسية لبعض رجال السياسة والفن وبعض رجال الأعمال وكان يتم تسريبها وتحدث فرقعتها الإعلامية لأيام علاوة على تأثيرها فى التخلص من المشاغبين أو سحب توكيل استيراد منهم او للضغط عليهم فى اتجاه معين !
كرة القدم
وتم تسييس كل شيء وإخضاعه لسيطرة الأمن بما فى ذلك المجالين اللذين لم يعد على السطح غيرهما وهما ( كرة القدم والفن ) وأصبحت مباريات المنتخب القومى لكرة القدم أهم حدث مصرى لدرجة ان مبارك الذى لم يدعم يوما لا التعليم ولا البحث العلمى إلا بملايين زهيدة صار يشاهد فى استاد الكرة هو و زوجته وولديه وحاشيته واصبح يحضر تمارين المنتخب لدعم اللاعبين . ثم يستقبلهم فى القصر الجمهورى لتكريمهم مرارا . ووصل الحال لدرجة ان مباراة مصر مع الجزائر فى السودان تم تصويرها على أنها معركة حربية استدعت ان يتدخل ( مبارك وبوتفليقة ) للتعليق عليها . وكان ذلك قمة الملهاة وقلب أولويات الشأن العام وتغيير جدول أعمال الأمة المصرية إلى الحضيض . وكان ذلك أحد الطرق المؤدية إلى الإنهيار والسخط العام والسخرية من رئيس ترك عبارة ( سالم إكسبريس ) تغرق بركابها فى البحر الأحمر . وترك (قطار الصعيد ) يحترق بركابه وتفرغ لحضور مباريات كرة القدم !
ولم يفلح إعلام الدولة الحكومى فى السيرفى التضليل والكذب والإلهاء والإقناع معا وإن ظن أنه يؤثر وريادى كما كان يقول وزير إعلام مبارك لعقود ( صفوت الشريف ) من ان الإعلام المصرى حقق المعجزات والريادة ووغزو الفضاء !
كان كل ذلك يجرى فى واد ومصر فى واد اخر بعيدا عن النخبة الحاكمة والمتحكمة فى مصائر البلاد .. كان هناك السلفيون بالملايين وظاهرة الدعاة النجوم وسكان المناطق العشوائية والمصريون بالخارج الذين شاهدوا الفوارق الكبيرة بين بلادهم التى تسمى ( مصر أم الدنيا ) وبين البلاد التى يعيشون فيها . وكان هناك فئة جديدة من الشباب تلقواتعليما جيدا ويتمتعون بمستوى اقتصادى جيد ويرفضون ما عليه بلادهم ويعلنون معارضتهم لحكم مبارك الذى لم يروا حاكما سواه من ولادتهم حتى بلغوا الثلاثين ولم يكن يبدو فى الأفق أى بادرة لتغيير جاد وحقيقى ولا بصيص نور أو شرارة أمل .
سد مبارك كل الطرق وقطع كل الجسور ووضع البلاد فى ثلاجة الحفظ لسنوات واستراح وظن أن الزمن لا يتحرك وان الشمس لن تشرق على مصر وانه من القدرة بحيث يستولى على أقدار العباد لعقود تالية .. ولكن الفجر كانت تلوح بشائره والشمس كانت تتأهب للسطوع والشعب كان قد بدأ يتململ ويسخط ويقاوم ولم تعد ترضيه المسكنات ولا التهديدات !
زادت سطوة الأمن وخنق الناس حتى فقد الأمن جدواه .وزاد الكذب حتى فقد النظام مصداقيته وإن حاول أن يتجمل وبصدق لم يعد يصدقه أحد .
قطع مبارك ( شعرة معاوية ) مع شعبه مبكرا فهان على الناس وانتظروا شرارة البداية لتكون الثورة وتكون مصر بين خيارين لا ثالث لهما : إما أن يرحل مبارك باى ثمن أو تحترق البلاد . وكان لابد أن يرحل مبارك لأن كل عمليات الترقيع والتجميل لم تعد تنقذه من غضبة شعبه . انفض عنه الجمهور وخلا المسرح وانطفأت الأنواروانتهت السنوات المريضة والكئيبة وانجلى الليل الحالك السواد عن صبح مشرق وكانت الثورة .
ونواصل غدا .  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق