قلت فيما سبق إن مبارك اختصر مصر التاريخ
والحضارة فى الأمن فقط وأكثر من هذا شغل الناس بالكرة والمسلسلات والفتنة الطائفية
بين المسلمين والمسيحيين حيث كان يشعلها ثم يسكتها لمصالحة الخاصة وكان يزيد من مخاوف
أسياده فى الغرب من القوى الإسلامية بشيطنتها وتفزيع المجتمع منها وبالمقابل كان
يضربها الضربات المتتالية بالسجون والتعذيب والملاحقة والتضييق والحصار الاقتصادى
ولم نسمع للغرب اعتراضا أو شجبا تحت بند حقوق الانسان !
وأذكر أن لقاء جمعنى بصديقى الأديب محمد السلاب
وهو يعمل مدرسا للغة الإنجليزية فى مدينة شربين التابعة للمنصورة بدلتا مصر وكنا
نسير فى الشارع المحاذى لقسم الشرطة فرأيت مكان القسم القديم الذى كان من طابقين
مبنى كبير وضخم من عدة أدوار ولما سالته عنه قال إنه مبنى ( امن الدولة ) بالمدينة
.اندهشت وقلت إنه يصلح لإدارة دوله وليست مدينة وعدة قرى تتبعها!
هكذا كان نظام مبارك .ينفق على الأمن بسخاء
ظنا منه أنه سوف يحميه وعندما جاءت الثورة مثل البركان قلعته من جذوره ولم تنفعه
أجهزته الأمنية التى كانت مسخرة له وصرفت نظرها عن ( الأمن الجنائى ) أو أمن
المواطن العادى . وهذه الأيام أسمع من وزير الداخلية الحالى اللواء أحمد جمال
الدين توجيهاته لأفراد الشرطة قائلا إن عقيدة الشرطة تغيرت لتعمل لصالح الشعب وليس
النظام وإنها تعمل وفقا للقانون واحترام حقوق الإنسان . وهذا كلام جيد وهو ما يجب
أن يكون وأن نراه بالأفعال .
أعود إلى ما كان يفعله مبارك وما راكمه نظامه
من مظالم وكيف كان المواطن لا يحصل على حقه لا بالقانون ولا بالقضاء بعدما ضرب
السوس كل مؤسسات الدولة وصارت الرشاوى مقننة والفساد بالقانون وممنهجا وكان
المواطن لا يحصل على حقه إلا إذا دفع للقضاء ليحصل على حكم لصالحة ثم يدفع للشرطة
لتنفيذ الحكم وإلا فلا مكان له فى بلده .ثم لم يكن غريبا بعد ذلك أن تصبح القدوة
فى لاعب كرة وفى عضو مجلس برلمان يتاجر بالمخدرات او يلعب القمار حيث ظهر ( نواب
القمار ) فى برلمان 2010 .وكما كتب احد الزملاء فى كتاب عن فضائح الداخلية فى عصر
مبارك أنها كانت تستطيع مراقبة 300 ألف شخص فى نفس اللحظة !وكان نزول أحدنا لقريته
مرصودا لحظة لحظة . أنه نظام فى قمة الغباء .ولم يكن هذا ببعيد عن مبارك الذى لم
يقرأ كتابا فى حياته ولم يتذوق موسيقى ولم يعرف غير الطعام وحب جمع المال بشراهة !
إن محمد على الألبانى الغريب عن مصر أدرك
قيمة العلم وأرسل البعثات إلى أوربا .أما مبارك فلم يكن يشغله غير توطيد أركان
حكمه وجمع الملايين من الصفقات والعمولات ونهب مال الشعب ثم تكميم الأفواه .لم يكن
مجرد ديكتاتور عادى بل سوبر مع غباء وغطرسة وكبرياء فارغ . قال عن المعارضة : (
خليهم يتسلوا ) وقال وريث عرشه ابنه جمال فى مؤتمر واسع عندما سألوه عن شباب
الانترنت : ( أنا مش هرد حد تانى يرد ) ساخرا من هؤلاء الشباب !
كان نظاما مغيبا عن الواقع ويرفض أن يرى أن
الدنيا تغيرت من حوله . حتى عندما اندلعت الثورة فى تونس قبل مصر خرج علينا أركان
النظام يقولون بغطرسة ( إن مصر غير تونس ) !
وعندما شعر مبارك أن الشباب لن ينفض من
الميادين لجأ للغة التهديد التى لا يعرف غيرها مع شعبه وقال : ( عليكم ان تختاروا
بينى او الفوضى ) . أليست هذه قمة الغطرسة والإستعلاء على الناس وكأنه إله متحكم
فى مصائر البشر !
لقد مر عام ونصف ومصر بدون رئيس ومع كل
المؤامرات الخارجية والداخلية والاستقطاب الحاد لم تسقط مصر ولن تسقط . لقد قال
أستاذ القانون بجامعة هارفارد ( نواه فيلدمان ) لصحيفة ( الأهرام ) فى الثلاثاء 25
ديسمبر 2012 إن مصر لن تشهد حربا أهلية .وهذه حقيقة لأسباب كثيرة قد أشرحها فى
موضع أخر .ولكن يكفى أن أقول إنه لا الاحتلال ولا الفقر ولا الطغيان نال من عزيمة
المصريين وارادتهم القوية وحبهم للحياة . وقد كتب أحد الرحالة وقد زار مصر فى
العصور الوسطى وشاهد لهوالمصريين : ( إنهم يمرحون ويلهوون وكأنهم فرغوا من يوم
الحساب ) !
المصرى يتألم نعم . يفتقر نعم .ينكسر لا .
وصدق الرئيس محمد مرسى فى خطابه بالامس أمام مجلس الشورى عندما قال إن مصر لن تركع
أبدا ولن تفلس وهذه حقيقة يطول شرحها . ولكن زيارة واحدة لسوق العتبة فى وسط
القاهرة ورؤية طوفان البشر الذين يشترون بضاعتهم خير دليل للرد على من يزعم إفلاس
مصر . كذلك زيارة واحدة ل ( مول العرب ) فى السادس من أكتوبر ستجعلك تشعر ان هذه
بلد وفرة وليست ندرة . وقد أخبرنى (زياد مغربية ) مدير عام المول أنه فى عز وجود
المظاهرات فى ميدان التحرير لم ينقطع زحام التسوق فى المول .وقال إن المصريين
يشرون أكثر من شعوب خليجية معروفة بوفرة السيولة مثل السعوديين .
لذلك ولعشرات القرائن فإن حديث الاقتصاد
المجرد لايصلح للحكم على بلد كمصرولا على شعب مثل المصريين عمرهم ألاف السنين .
أقول هذا وأنا لست من (الإخوان المسلمين ) ولست من ( حزب النور) السلفى ولست من أى حزب ولم أكن فى ( الحزب الوطنى )
الحاكم المنحل . بل أنا مصرى مسلم وسطى
معتدل لى عشرات من اصدقائى النصارى وقاريء جيد للتاريخ .
إن مثل مبارك لم يعرف معدن شعب مصر ولم يقدره
حق قدره بل استهان به وأهانه وتعمد إذلاله فركله الناس فى صندوق القمامة ولم تدمع
عليه عين فى الوقت الذى بكت فيه الملايين عبد الناصر رغم ديكتاتوريته وهزيمته من
إسرائيل لأنها رأت فيه واحدا منها ومتلامسا مع أحلامها وباعثا لمشاعر العزة
والكرامة فى نفوسهم وهى من المفاتيح السرية لقيادة المصريين . أن تحترم كرامتهم
ولا تحط من شأنهم . لقد صنع مبارك فى مصر وبالمصريين مالم يصنعه أى مستعمر مر على
مصر ..وللحديث بقية .
وقبل أن اودعكم انوه إلى ماكنت ذكرته عما
قاله لى د.نبيل راغب عن السادات واستكمله بما قاله أستاذنا الجليل د. محمد عنانى (
للأهرام ) يوم 23 ديسمبر 2012 من أن استاذه د. رشاد رشدى هو من كتب قصة حياة
السادات المعروفة باسم ( البحث عن الذات ) وترجمها د. عنانى للإنجليزية .
الأمر
الثانى اننى شاهدت الليلة بوحى من زوجتى فيلم جوليا روبرتس (eat pray love ) وتعنى ( الأكل والصلاة والحب
) وهو فيلم جيد طافت فيه البطلة من نيويورك إلى إيطاليا والهند وبالى بحثا عن
ذاتها أو عن التوازن . ولا شك أن الشرق مهبط الأديان والدفء والروحانيات وسيظل
ملهما فى عصر جرفت فيه الحياة العصرية الصارمة غذاء الروح . والفيلم ذكرنى برواية
أديب نوبل ( باولو كويلو ) المعروفة باسم ( السيميائى ) والتى ترجمها ( بهاء طاهر
) للعربية باسم ( ساحر الصحراء ) وهر رواية ممتعة حقا . ودمتم على خير .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق