الجمعة، 9 مايو 2014

(6) أمى فى المدرسة

(6)أمى فى المدرسة
أدخل جدى الشيخ عبد الصمد ابنتيه ( وجيدة وزينب ) المدرسة . وزينب هى أمى . ورغم أنها أصغر من أختها بسنوات إلا أنهما كانتا فى فصل واحد بالمدرسة الابتدائية . وظلت أمى بالمدرسة  حتى السنة الرابعة . أى حتى مات والدها فأخرجها أخوتها الذكور من المدرسة . وقد خرجت وهى تجيد القراءة والكتابة . وتقرأ القرأن وهذا يكفى لأن ( فيه خبر من كان قبلنا ومن سيأتى بعدنا وهو الفصل ليس بالهزل وحبل الله المتين من تمسك به نجا ) . هكذا كان التعليم قديما وقبل أن ندخل فى عصورنا الميمونة التى ينهى فيها الطالب الثانوية العامة أو دبلوم التجارة ولا يستطيع كتابة اسمه !
كما تعلمت أمى على يد الشيخ بلال أبو عبد الجواد كيفية  الوضوء و الصلاة والصوم . وأتاح لهاذلك لاحقا قراءة الكتب الدينية ومقالاتى والصحف والمجلات التى أحضرها لها وكل ما يقع تحت بصرها من كتب وتبدى ملاحظات قيمة فيها وكأنها ناقدة دارسة .
أنبياء الله
وأذكرأن كتاب الكاتب الراحل أحمد بهجت ( أنبياء الله ) عندما أهدانى إياه بطبعته الخامسة والعشرين وعدت به للبيت وتركته على تربيزة السفرة بالصالة على أمل أن أقرؤه لاحقا أخذته أمى وظلت تقرأ فيه يوميا حتى الثانية من بعد منتصف الليل وكأنها سوف تمتحن فيه فى الغد وتعلقت بالكتاب بشدة وأحبته وهى محقة لأنه كتاب مكتوب بصوفية وروحانية وذوق خاص وليس مجرد تأريخا لسير الأنبياء . وقد أخبرت أحمد بهجت بذلك فانشرح قلبه وسر كثيرا وأعترف بأن هذا الكتاب تحديدا فيه سر ما لدرجة طباعته عشرات الطبعات والترجمات . قصدت أن أقول إن أمى تقرأ وبتركيز وتبدى رأيها فيما تقرؤه وغالبا يكون صوابا .
وتذكرأمى أن أباها كان يجلسها مساءا تحت قدميه . هو فوق الكنبه وهى على حصيرة فوق الأرض .وعلى نور اللمبة الجاز نمرة عشرة الكبيرة يسألها : أخذتوا إيه فى المدرسة ؟ سمعى لى .. وكانت أمى تقرأ فى كتابها وأبى يصحح لها النطق وتتذكرأمى أنها كانت تقرأ فى قصار سور القرأن مثل ( ويل لكل همزة لمزة ) وجدى يصحح لها النطق . وكثيرا ما كان خالى عبد السلام يأتى بكتاب دينى قديم وكبير يقرأ فيه وجدى وأولاده من حوله يستمعون إليه .
الكلوب أبو رتينه
ولم يكن إلى ذلك الوقت (الكلوب أبو رتينه) معروفا أنذاك إلا فى مناسبات الأفراح والمأتم فقط وكان يستأجر ومن يمتلك واحدا كمن امتلك شيئا من رفاهية الحياة اليوم .وهذا الكلوب كان موجودا فى المقاهى القليلة الموجودة فى القرية . وكان يسأجر من شخص يدعى عبد المنعم الدمياطى مع الميكرفون فى الأفراح والمأتم .وكان أبى يسأجر عددا منها كلما أقام ليلة لله بمناسبة المولد النبوى وكان يأتى بالسادة الشاذلية لإحياء الليلة الرائعة التى تنتهى بميلاد الرسول ثم يستريح الجميع لشرب أقداح اللبن والقرفة وحلاوة المولد ثم يأخذون بضعة قروش فى أخر السهرة .وكانت طقوس إشعال الكلوب بالكباس وطريقة ربط الرتينة من المهارة بمكان ولا يجيدها إلا متخصص وكأنه سوف يشغل المفاعل النووى . وإذا سقطت الرتينة وانطفىء نور الكلوب فجأة تكون مشكلة ولابد من تركيب رتينة أخرى على وجه السرعة .  
سلخ الحمير الميتة
كانت أمى فى طريقها للمدرسة ترى بعض الرجال الذين يسلخون الحمير الميتة على شاطىء الترعة التى تشق القرية ليأخذوا جلودها للمدابغ لصناعة الأحذية والحقائب الجلدية وكانت هذه ظاهرة ظلت حتى رأيتها بنفسى . وكانت أمى تظن لصغرها وقلة خبرتها بالحياة أن اللحمة التى يأكلونها فى البيت هى نفس اللحمة المسلوخة فأضربت عن تناول اللحم لسنوات ومنعها خجلها من الاعتراف بالسبب . ولم تفهم الحقيقة إلا على كبر . وكان أبوها يقول لها فى كل مرة تمتنع فيها عن تناول اللحم : ( إللى بياكل على ضرسه بينفع نفسة ) !
أغانى المدرسة  
وفى المدرسة كانت أمى تغنى مع قريناتها وهن يضربن على التختة بين الحصص وفى الفسحة أغانى عديدة تذكر منها هذه الكلمات من أغنية لطيفة تقول  : ( مدرستى بتفتح بدرى – واخد غدايا واجرى – واجرى من تحت الكوبرى – واقول ياناس سيبونى – هاتعطلونى – على ميعاد المدرسة – ناخد إملا وهندسة ) . ويغنون أيضا : ( درجى ده مفتحهوشى – إلا بأمر لافندية ) . وكن يغنين للفاشلة منهن : ( اتغشى ياساقطة من السبورة ) . . كانت هذه أخر أيام الملكية وأول أيام  ثورة 23 يوليو 1952 ولم يكن يعرفن فى هذه الأيام غيراسم الملك فاروق واللواء محمد نجيب وكن يهتفن عند الخروج من المدرسة : ( عاش نجيب كتير كتير خلا فاروق يبيع جرجير ) !
كانت المدرسة مصدر السعادة والبهجة لأمى وكانت تتحصل على قدر وفير من الحلاوة الطحينية والفول السودانى والخبز الأسمر وطبق الفول وقطعة الجبن الأبيض وغير ذلك من التغذية المدرسية زمان . وكان المدرسون يرتدون ملابس مشايخ الأزهر حيث كان القضاء الشرعى موجودا قبل أن يلغيه عبد الناصر بجرة قلم . وكان هناك مدرسون أخرون يرتدون البدلة الأفرنجى والطربوش . وكانت التلميذة  الشاطرة تتحصل من المدرس وكان اسمه ( الخوجه ) على بضعة ملاليم أو تعريفه بحاله أى خمسة ملاليم وكانت عادة من نصيب أمى فتذهب وزميلاتها إلى دكان بلال أبو عوض الله البقال و تشترى الكراملة الخضراء أم نعناع وتفرقها عليهن .وتتذكر أمى القرش الصاغ الأحمر المشرشر الذى تعلوه صورة الملك فاروق ملك مصر والسودان . كما تذكر التعريفة الأبيض وعليه صور فاروق وكذلك المليم .
وتذكر أن أمها عندما ماتت . وكان اسمها ( نعيمة عبد الحى سالم ) كان بيتهم ملىء بالكلوبات المضاءة ليلا والقارىء يقرأ القرأن بينما  كانت هى سعيدة بهذه الأنواروهذا الحدث الاحتفالى  وكانت تغنى كطفلة لا تدرك شيئا عما يدور حولها بينما الكبار يبكون !  وكان لها سؤال واحد لأبيهافى كل حين هو : ( العيد إمتى يابا ) وكان يرد عليها ردا واحدا لا يتغير هو : ( حالا ) .
رمضان
كان العيد يأتى صيفا بعد رمضان . ولم تكن هناك لا كهرباء ولا مياه ولا ثلاجات فكانت ونساء العائلة يملأن قلل الفخار والزير الكبير من ماء النيل ويضعن فيه بعض نوى المشمش والبلح والشبه للتنقية . حيث يترسب الطمى فى القاع . ويتركن القلل فى الفراندا عصرا فى صينية من النحاس ليبرد الماء . وعندما ينطلق مدفع الافطار والأذان يأتى  عصير العرقسوس والتمرهندى والخروب ثم الصوانى تلو الصوانى .. صوانى البط البلدى ثم صوانى المكرونة باللبن والأرز باللبن ثم المكسرات وبعد صلاتى المغرب والعشاء ثم التراويح يكون الفطير والكماج والجبن والقشدة والمش . هكذا كانت حياتهم . وهات ياسمر طول الليل .
مبيض النحاس
كان الطعام يطهى  فى أوانى النحاس . ولم تكن أوانى الألومونيا قد عرفت بعد . وكان للنحاس رجل متخصص فى تنظيفه كل فترة من الوقت اسمه ( مبيض النحاس ) . كان يمر على البيوت فتقدم له النسوة الطشوت وحلل النحاس الكبيرة فيضعها على الأرض ويقف فى وسطها بقدميه العاريتين ويأخذ فى الدوران يمينا وشمالا بكل ثقل جسمه أظن على خرقة بالية حتى يلمع النحاس ويستعيد رونقه .
وكان النحاس ثروة وقيمة فى البيت .وكان مخزنا للقيمة مثل الذهب لدرجة أن الأسرة كانت تبيع بعضه عند الحاجة . وقد باعت أمى نحاسها لمساعدة أبى فى بناء بيت العائلة عندما استقل بأسرته عن بيت جدى .وكان كل جهاز العروس من النحاس ..السرير النحاس المرتفع عن الأرض ذو الأعمدة والناموسية لحجب الناموس عن النائم . بالطبع فى بيئة زراعية كان يكثر البعوض وكانت الناموسية من قماش الشاش الرقيق مهمة جدا .أيضا الطشت الكبير والحلل العميقة للعجين والحلل الصغيرة والأبريق والصوانى من النحاس .وكان من العار أن تدخل عروس بغير النحاس وتصير فضيحة ونكتة البلد كلها . هكذا كان العرف أن يكون الجهاز أوالشوار أوالأثاث من النحاس .قبل أن ندخل عصر الألومونيا والصفيح والناس أشباه الناس الذين ليس لهم من الناس غير وجوه بنى أدم !
الموقد البلدى
كان الطعام يسوى على نار الموقد البلدى المصنوع من قوالب طوب متواجهة .ويظل مثلا دكر البط على النار لساعات وست البيت تغذى النار بالحطب والخشب .فإذا حل موعد الغذاء أوالعشاء كانت النسيرة من البط مع طبق الشوربة حكاية ولا حكايات ألف ليلة . وكان المذاق كالسحر أو الأسطورة .أما الشاى المغلى فكان يجهز على رماد الفرن فيأتى مذاقه ساحرا .هكذا عشت طفولتى . أما القرفة باللبن فكانت مشروب بيتنا والضيوف فى ليلة مولد النبى إذ كان أبى يأتى بالسادة الشاذلية ويحيون ليلة لا تنسى فى الدار . وبعد أن يفرغوا توزع على الجميع القرفة باللبن والحلوى والشيكولاته والملبس . وكنا نستعد لهذه الليلة بمسح البيت من الداخل والخارج ورش الماء ثم فرد الحصر واستئجار كلوبات الانارة وتكون ليلة مشهودة من الذكر جلوسا بهدوء ثم وقوفا عندما يشتد الذكر بحماس ويعلو صوت المنشدين عند قرب ميلاد الرسول حيث يذكر المنشدون قصة الرسول من جدوده حتى حمل أمه السيدة أمنة بنت وهب به شهرا وراء شهرحتى لحظة مولده عليه الصلاة والسلام .كانت الليلة  من ليالى البهجة العامرة بالبركة . و كان أبى مؤمنا شديد الايمان بفطرته وحج ثلاث مرات ولم ينقطع عن صلاة الفجر حتى مات وهوابن 51سنة وكان يجاهربالحق ويفعل المعروف فى السر .وكان يحفظ من القرأن والشعر ويحسب أعقد عملية حسابية بعقله فى ثوانى دون ورقة أوقلم .وكان يسخر منا عندما نمسك بالقلم لحساب مسألة ما ويحلها قبلنا فى رأسه .        
ألم أقل لكم إنهم لم يكونواقد اخترعوا الحكومة ولا عرفوا النكد ولا الفواتير ولا الغلاء ولا الأمراض .. لدرجة أن جدى الشيخ عبد الصمد لم يمرض إلا فى شيخوخته وقبل موته وهو المرض الذى جعله يسافر للقاهرة ويذهب للأطباء وكان مرشدة فى ذلك الصحفى بالأهرام أنذاك زكريا نيل الذى يعتبر جدى كجده وكثيرا ما كلمنى لا حقا لما كبرت عن جدى صاحب الفضل الأول عليه فى تعليمه.وصاحب الأيادى البيضاء على عائلته كلها .
وكان جدى يصطحب أمى أمامه على الحمار أو الركوبة أو الكارته وهو ذاهب للغيط وهى طفلة وتتمنى أن تظل أمى مع الصغيرات اللائى كن يسرحن فى (الدودة ) أى فى تنقية القطن من الدود .وتحب أن تلعب معهن ولكن جدى كان يأخذها معه عند عودته . وتبكى أمى وتتمنى لوبقيت معهن  ولكن لم يكن يصح أن تكون بنت حضرة الناظر مع الفلاحات العاملات فى الأرض بأجرفأمى إبنة فلاحين  نعم ولكنها ليست فلاحة بالمعنى الحقيقى !

هذه هى أمى بخلفيتها ونشأتها وظروفها ولكم أن تتخيلوا كيف استعدت للسفر للقاهرة . أومصر أم الدنيا ؟.. وهذا ما سنشرحه فى الفصل التالى .

الجمعة، 14 فبراير 2014

امبراطورية الشيخ عبد الصمد

قلت بالسابق إن أمى لم تعرف من الدنيا حتى ذلك الحين إلا بيتها وأولادها الذكور الثلاثة وقريتها وأسرتها وبالكاد شربين وهى المركز والمنصورة وهى المحافظة والتى زارتها طفلة للتسنين أى تزوير شهادة طبية بأنها بلغت ال14 سنة كى يزوجوها من أبى . ولكن أمى كانت تقرأ جيدا وتكتب ولكن بدرجة أقل جودة وقدحصلت على تعليم أولى حتى الثالثة أو الرابعة ابتدائى .لاتذكر بالتحديد ولكنها تتذكر أيام المدرسة بحب وشغف وعشق لم أعرفه أنا فى المدرسة ولا أظن الأجيال التالية قد عرفته . ولكن كيف ذلك ؟سأحكى لكم ..
كان جدى لأمى من أشراف عرب كفر صقر بالشرقية وكان اسمه ( الشيخ عبد الصمد الامام حسن زيد ) وكان لقب عائلته الأخير ( المغربى ) وبذلك نعرف أن جدوده هاجروا من الجزيرة العربية للمغرب ثم فى هجرة عكسية أخرى لمصر واستقروا فى قرى كفر صقر بالشرقية ثم هاجر بعضهم لقريتنا قبل مائتى سنه وكونوا أسرة بها . وتذكر أمى كيف كان أقارب والدها يأتون لزيارته من كفرصقر وتصفهم بأنهم رجال ملء العين طوال ويرتدون الجلباب العربى الواسع والعمامة .وكانت عائلة أمى موزعة بين الزراعة والدين فكان جدى الشيخ عبد الصمد ناظرا على الأرض الزراعية لكل القرية من قبل الخواجات الذين كانواهم الانجليز الذين رأتهم أمى وهى طفلة . وكم لعبت فى سراى العمدة ببراءة وكانت ترى سيدات الانجليز خاصة فى موسم جنى القطن . والذى خصص له الانجليز سكة حديد من أبعد نقطة فى الأرض حتى باب السراى .وكان جدى مشرفا على ذلك كله من أرض ومخازن غلال ووقود وعمال يومية . أى أنه لم يمارس الزراعة بيده لأنه ( حضرة الناظر) .اما أخوالى فقد مارسوها بمهارة .
أما الفرع الأخرمن عائلة أمى فشغل مناصب الدين فى القرية من المأذون الشيخ عبد العليم زيد إلى غيره فقد كان المأذون وخطيب الجمعة فى جامع البلد الكبير الذى لم يكن سواه وقدرأيته طفلا فوق المنبر يقرأ من ورقة بيضاء وتدمع عيناه وكان من عاداته أن يسجل خطبه مكتوبة بكل المناسبات فإذا حلت مناسبة ما مثل الاسراء والعراج أوالهجرة أخرج الورق الخاص بها فقرأه على المنبر وأحيانا كان يحدث أن يأتى بكلام لمناسبة غير التى حلت وتصبح الحادثة مثار تندر المصلين أى أنه عرف الخطبة الموحدة والمكتوبة مسبقا قبل أن تجعلها وزارة الأوقاف أمرا رسميا فى يناير 2014 !.. وهو الذى كتب وثيقة زواج أبى على أمى وأحتفظ بها للأن وكان مهر أمى ثلاثين جنيها . وقد ورث عنه ابنه محمد المأذونية .
وكان يوجد فى الجامع الكبير ضريحا لجد لى من عائلة زيد فى مقدمة المسجد وله لوحة رخامية تعلوه تشير إلى وفاته ولكن مع هدم الجامع القديم وبنائه من جديد اندثر هذا المدفن بلوحته الرخامية وضاع رسم الجامع القديم الذى كان أحن وأجمل وأكثر دفئا من الجامع الحالى الذى كلما صليت فيه تحسرت على الجامع القديم الذى طالما صليت فيه ولعبت بساحته فى ليالى الصيف التى كانت تأتى دائما فى رمضان . ورغم أن القرية لم تكن تعرف لا الكهرباء ولا المياة ولا أى صور للرفاهية إلا أن الحياة كانت ممتعة والبال رايق والذهن خالى وأعتقد أنهم لم يكونوا اخترعوا الحكومة بعد ولا الفواتيرمن غاز وكهرباء ومياه وتليفون ومحمول وانترنت وتحولت حياتنا كلها لفواتير شهرية وأسبوعية أو أن الناس كانت لا علاقة لها بالحكومة إلا أيام فيضان النيل قبل بناء السد العالى إذ تضطرهم الحكومة للعمل الجماعى فى تعلية جسر النيل بمقاطف التراب حتى لا تغرق القرية ومع ذلك كان النيل يفيض من فوق الجسر كما تقول أمى وكان يغرق البيوت الطينية المطلة عليه والويل لمن تجازف بالذهاب إليه إذ كان يجرف الطشوت النحاس والحلل والأباريق بقوة موجه وأحيانا كان يجرف الأطفال والكبار أيضا !كان ماء الفيضان شلالا ومحمل بالغرغرينا والطمى وكان كل السكان يشربون منه بعد نقله إلى الزير والقلل الفخار التى كانت بكل دار وكان ( الملا ) يقوم بحمل الماء من النيل للدور نظير أجر زهيد وهو (السقا ) المعروف عند أهل القاهرة قديما قبل مد شبكات المياه النقية للبيوت . وكان يتم تنقية المياه بنوى البلح أو المشمش أو الشبه وكان طعم الماء مثل السكر .وكان كل زير محمول فوق ما تسمى ( القطارة ) وأسفلها ( بزبوز ) أوحنفية للفتح والإغلا ق عند الاستعمال . وكان ماء الزير والقلل للشرب وطهى الطعام . أما غسيل الملابس وأوانى الطعام فكان فى الترعة أو فى النيل وكانت الناس تشرب من ماء النيل أو من الترعة ومن القنوات الصغيرة وهكذا فعلنا نحن قديما . وكان هناك أكثر من ( ميضه ) وهى مكان مخصص على شاطىء النيل أو الترعة للنزول للماء بسلالم لجميع الاستخدامات ومنها الوضوء للصلاة . وعادة ما تكون إلى جوارها ( مصلى ) أو زاوية صغيرة للصلاة . طبعا هذا قبل اختراع وزارة الأوقاف وتوحيد الصلاة والخطبة والدعاء وضم كل جحر للوزارة وليس بعيدا أن يصلى المسلمون بالكروت الذكية بعد ذلك ونتحول من أشخاص طبيعيين إلى أرقام مخزنة على الكمبيوتر !    
وقد رأيت بنفسى وأنا طفل كيف كانت الترعة التى تشق القرية يجرى فيها الماء شلالا قويا رائقا أما  اليوم فهى جف ماؤها وصارت مقلبا للزبالة ومأوى للفئران وكل أنواع الحشرات ومنظرها مؤذى ويغم النفس . طبعا زمان لم يكونوا اخترعوا الحكومة بعد أما اليوم وبعد اختراعها فسنجد أن وزارة الرى تخصص كم مليونا لتطهير الترع فتذهب لجيوب المحاسيب والمدراء وتبقى الترع كما هى على اعتبار أن الزبالة هدف قومى ومشروع وطنى وعشرة عمر والعشرة لا تهون إلا على ابن الحرام وصباح الخير ياحكومة !  
وأمس فقط الخميس 13 فبراير 2014 استمعت لخبر فى نشرة التاسعة بالتليفزيون المصرى الرسمى أن لقاءا تم فى بورسعيد جمع بين وزير الزراعة ومحافظى بورسعيد ودمياط والدقهلية لتطهير بحيرة المنزلة وتخصيص 450 مليون جنيه لهذا الغرض . وأقسم أنى سمعت مثل هذا الخبر مرارا ومنذ مولدى ولا جديد بل تقلصت مساحة البحيرة وضربها التلوث الصناعى والصرف الصحى ووضع الأقوياء يدهم على مساحات شاسعة منها وحولوها لأرض يابسة للبناء فوقها وأصبح الصيادون فيها تحت رحمة التهديد ليس بقطع أرزاقهم فقط بل بقطع رقابهم بالسلاح الألى ويتم ذبح البحيرة تحت بصر وسمع الجميع وعلى رأى زوجتى فإن الهدف من مثل هذه الاجتماعات هو شرعنة الفساد وصرف الاعتمادات للكبار وإلا كانوا استعانوا برسالتها لنيل الماجستير عن بحيرة المنزلة !طبعا نحن أمة تقدس العلم والعلماء ولذلك نحتفظ بالعلم فى الأدراج خوفا عليه من البرد ونجوع العلماء ونذلهم .وقديما قال الزعيم : العلم لا يكيل بالباذنجان وتحيا الأمة العربية المهلبية ! وسنلتقى بعد سنوات والبحيرة مجرد ذكرى وأثر بعد عين وسنرى .
وعلى رأى الرجل المحترم عبد الغفار شكر الذى كان بالاتحاد الاشتراكى فى زمن عبد الناصر ثم مارس السياسة فى عصرى السادات ومبارك ومابعد مبارك وإلى اليوم وما بعد اليوم باعتبارة من شباب الثورة . قال الرجل فى مؤتمر عن الفساد وسمعته بنفسى إن بمصر ثلاثة أنواع من الفساد فقط . أموت وأعرف الأنواع الثلاثة لأنى كنت أظن أن مصر خالية من الفساد ونظيفة كأطباق الصينى بعد غسيلها . طبعا مصر مثل بقية الدول العربية طاهرة عفيفة شريفة نزيهة والمصريون كالعرب ملائكة أطهار ب 24 سلندر و360 جناحا وبما أننا خير أمة فنحن مكاننا الجنة أما الدنيا فنحن خارج خريطة العالم وصباح الخير يا عرب !    
وهنا أذكر أبياتا من الشعر  أعجبتنى للشاعر الكويتى نورى الوائلى يقول فيها :  (من ينشد الخير فى قوم بلا قيم – كزارع فوق أرض البور عرجونا – ما قيمة العلم والأخلاق ضائعة – ما قيمة الدور تحوينا أساطينا – لا يغلب السيف أخلاقا إذا حسنت – فالبيض أدنى من الأخلاق ترضينا ).
نعود للكلا م عن جدى أحسن  .. وجدى الشيخ عبد الصمد تزوج أربع مرات .. فى المرة الأولى تزوج ( ستوتة أم موافى ) وأنجب منها ( محمد والمرسى ونفيسة ) وفى الثانية تزوج بعد وفاة الأولى ( لطيفة الناغى ) ولم تنجب وطلقها . وفى الثلاثة تزوج جدتى لأمى  ( نعيمة عبد الحى سالم ) وأنجبت له ( عبد السلام ووجيدة ومطاوع وزينب أمى وأحمد ) وكانت جميلة بيضاء . وبعد موتها تزوج ( فاطمة عبد التواب ) وأنجب منه (سامية )ومات رحمه الله قبل أن يكمل 12 زوجة !
وقد رأيت زوجته الأخيرة أم خالتى ( سامية ) وعاشت حتى تخرجت من كليتى وكانت كلما ذكرته لها تحدثت عنه كما لو كانت تتحدث عن نبى مرسل أو ولى صالح ولا تتحمل عليه كلمة واحدة ولو على سبيل الدعابة. وتقول إبنة أخو جدى ( فاطمة أم معوض ) إن عمها الشيخ عبد الصمد رأى عندها ( فاطمة عبد التواب ) وكانت ممتلئة بيضاء وشعرها الأسود إلى أسفل ظهرها فسأل عنها وعرف أنها بنت ( الريس عبد التواب ) الذى كان يبيع الرمل ويستقبله من المراكب إذ كانت وسيلة النقل الوحيدة تقريبا عبر القرى . المهم احتال جدى وطلب من أبنة أخيه أن تستدعيها بأى حجة فجرت خلفها ونادت عليها أن تعود لتحمل عليها مرتبة السرير كى تخرجها تتشمس فعادت وفوجئت بجدى يصافحها ويضغط على يديها ويقول لها ( ازيك يا أم عبده ) وكانت الشرارة ..
ذهب جدى لشقيقته ( أمينه ) واستشارها فى الأمر ومساء أخذ شقيقه وأقاربه لبيت الريس عبد التواب وطلب يد ابنته فرد بأن جدى بيت فلاحين وفيه مواشى وزريبه وخلافه وابنته كان سبق لها الزواج فى مصر ومطلقة ولا تعرف شيئا عن حياة الفلاحين فرد جدى أنه ناظريرتدى الحذاء والشراب فى قدميه ولا يعمل بالارض  بيديه . فنادى الريس عبد التواب على ابنته وقال لها إن الشيخ عبد الصمد يريدأن يتزوجك فقالت : (موافقة يا با ) فعاد يقول لها إنك ستربطين حمارته وتمسحين تحت المواشى فردت ثانية :( موافقة يابا ).وتم الزواج وغرقت هى فى صفائح القشدة والسمن البلدى واللبن والخير والبركة ورحل جدى بعد أن كان غرس أخر بذرته خالتى سامية .        
كان جدى  يعول أقاربه من الفقراء رعاية كاملة لدرجة أن أمى تشهد له بأنه كان يمر عليهم جميعا بعد صلاة الفجر وكان اللبن الطازج والقشدة والسمن البلدى وكل ما تجود به الأرض من فول وأرز وقمح وبصل وخيار وقرع وباذنجان و.. لابد أن يوزع على الجميع وكذلك السمك الذى يصطادونه من الترع والقنوات . لذلك تذكر أمى جدى وكأنها تتكلم عن أحد أولياء الله الصالحين .وكان يرتدى زى مشايخ الأزهر من جبة وقفطان وعمامة ومسبحة طويلة وعصا وشمسية لحمايته من الشمس ويركب الحمار أو ( الكارته ) وهى عربه تشبه الحنطور يجرها حصان وتذكر أمى أنه كان بالليل يجلس على أريكته وأولاده أسفل قدميه وعلى ضوء اللمبة الجاز نمرة عشرة يطلب من خالى عبد السلام أن يأتى بأحد كتب الدين كالبخارى أو تفسيرالقرأن  ويطلب منه أن يقرأ لهم منه .وأحيانا يطلب من أمى أن تسمع له ما أخذته فى المدرسة من قرأن ويصحح لها النطق وما تتذكره مراجعته لها فى سورة ( ويل لكل همزة لمزة ) .  ورايت بنفسى مدافن عائلة أمى القديمة قبل تجديدها وتعلوها قبة ضريح  . وكان أبى كلما كان راضيا عن أمى ذكرلها أن جدها النبى كما سمع من أبيه .
ورأيت بنفسى عمة أمى واسمها ( أمينه ) وكانت متزوجة فى بيت ( الا تربى ) وأصل الكلمة ( اليثربى ) لأنهم من يثرب بالجزيرة العربية أساسا . كنت طفلا وأخر العنقود فكانت أمى تعلقنى أو تسحبنى فى يدها إلى كل مكان .. إلى البحر وإلى (المرشح ) وهو حنفية عمومية كانت تتوسط القرية قبل دخول المياة النقية للبيوت وكانت أمى تذهب إليها ليلا حتى لا يراها الناس . هكذا كان الحياء والاحتشام زمان . أى لا يصح أن تخرج للمرشح نهارا .وقبل المرشح كانت تذهب للنيل ليلا أو فجرا وكم تحمل ذاكرتها من حكايات الجن والعفاريت الذين كانوا يعترضون الناس ليلا . وكم من غريقة فى النيل قيل إن الجن جذبها للماء وتزوج منها . وكنت أسير معها حاملا بعض الحلل ولمبة صغيرة جدا تعمل بالجاز نسميها ( وناسة ) وكانت نمرة خمسة . وبعد انتهاء واجب الغسيل اليومى للملابس والحلل تقوم أمى بعملية استحمام لى ثم نعود للبيت فى الظلام الدامس كما خرجنا وأن أحمل معها الحلل والثياب وعادة ما كانت الوناسة تنطفأ بفعل الهواء ونعود متعثرين فى الطريق .
ولا زلت أذكر (أمينه ) عمة أمى حاليا كما لو أنى أراها الأن .. كانت شديدة البياض . أميل للقصر والبدانة وكانت تجلس على سرير نحاس قديم مرتفع عن الأرض . وكان السرير غاية فى البياض والنظافة . وكانت تأخذ أمى بالحضن وتتذكر شقيقها الشيخ عبد الصمد وتظل تذكر مأثره والكلمة التى لا أنساها وكانت تتردد على لسانها باستمرار هى : (يانن عينى ياعبد الصمد ) وهى تبكى . وأشهد أن عائلة أمى كان فيها حنان غير طبيعى لم أره بعد ذلك أبدا إلا فى أمى التى وصفتها زوجتى بأن حنانها مدلدق أى لا حد له وهى كذلك بالفعل وقد مرت أمى لاحقا بعد موت أبى بابتلاءات ومصاعب تكسر الجمل وتهد الجبل خرجت منها سالمة بفطرتها وإيمانها القوى بالله وتسليمها المطلق لله وأنا أحسدها على إيمانها هذا الذى يفوق برأيى إيمان علماء الدين الكباروأعدها من أولياء الله الصالحات  .
ولكن كيف تعلمت أمى القراءة والكتابة فى هذه البيئة ؟ وماعلاقتها بالمدرسة ؟ وما ذكرياتها عنها ؟..هذا ما سنعرفه فى الفصل القادم .



الاثنين، 3 فبراير 2014

(4) الشيخ بلال أبو التعليم

كانت قريتنا قديما ليس فيها إلا مدرسة ابتدائية واحدة هى التى تعلمت فيها أمى وتعلم أبى وتعلم أخوتى وتعلمت أنا فيها أيضا . كانت جميلة فسيحة وبها حوش كبير يتحول فى حصة الرياضة إلى ملعب لكرة القدم وكان بها حديقة جميلة ومصلى للصلاة وحمامات نظيفة . وكانت من دور واحد وتجرى أمامها الترعة التى تشق البلد وكنا نصنع المراكب الورق ونلقيها فى الماء لتسبح ونتسابق فى صنع مراكب كبيرة وقوية .
أما الأن فالمدرسة أشبه بالسجن . صارت من أربعة أوخمسة طوابق واختفى الحوش والحديقة والمصلى لحساب مبانى الأسمنت المسلح لمواجهة الأعداد المتزايدة من التلاميذ .وصارت الترعة مأوى للزبالة والبعوض والفئران . واختفت كل ملامح الجمال ليحل محلها القبح والعشوائية لدرجة كلما نزلت قريتى تحاشيت النظرإليها
ورغم أنه صار بالقرية نحو عشرة مدارس .. ابتدائى واعدادى وثانوى وتجارى وأزهرى . إلا أن أول وأقدم مدرسة تظل مثل الحب الأول . وأول دقة قلب . وأول لمسة لأصابع المحبوبة . وأول نظرة هيام لعينيها . لم يكن بالقرية  لعقود غيرها . وبعد سنوات بنيت فى ( رأس الخليج ) مدرسة شوقى العريان الاعدادية ثم مدرسة الدكتور إبراهيم أبوالنجا الثانوية الذى أسس ورأس كلية طب المنصورة وكان ابن بلدتنا .
وقد تعلم بمدرسته أبناء كل القرى المجاورة لسنوات فى وقت لم يكن فى مركزشربين كله إلا مدرستنا ومدرسة أخرى فى المدينة وكانت المدرسة كبيرة جدا ولها حوش كبير وملعب أكبر وكانت نظيفة وكان المدرسون فى أغلبهم أهل عطاء وأمانة وجدية إلا فيما ندر وقد نجحت وزملائى فى الفوز بكأس أوائل الطلبة على مستوى الجمهورية فى السنة التى كنت بها فى السنة النهائية فى الثانوية العامة وكانت سنة 1986ويوم أعلنت النتيجة النهائية أخر العام عرفتها من الصحف إذ نشر اسمى فى الصحف وعج بيتنا بالصحافيين لمقابلة هذا الطالب الذى هو أنا وتملكنى الخجل فذهبت لشجرة كنت أحب الجلوس أسفلها لساعات بين الحقول وأمضيت يومى فى التأمل وقام أبى بالمهمة نيابة عنى ..المهم هذا موضوع قد أعود إليه يوما ولنعد إلى قصتنا الأصلية ولكننى فقط أردت أن أشير سريعا للفارق الشاسع بين التعليم قبل ثلاثين سنة والتعليم الأن الذى صار تجارة وبيزنس وسباق محموم للحصول على الشهادة وليس للتعلم . وهذا حال كل أمورنا الأن اختفت القيمة الأدبية والوجدانية والعلمية والشعوربالمسؤلية والواجب لدرجة أننى عندما أتكلم عن الضمير يتهمنى بعض أقاربى بأننى من زمن أخرودائما ما يقول لى أخى الأكبر وهو من أكابر رجال التعليم (انسى جيلك انتهى ) وهذا حديث ذو شجون !  
الكتاتيب
فى مثل هذا الجو كانت الكتاتيب هى معقل التعليم الأول وهى المنبع والمصدر الخام واللبنة الأولى للتعليم . وكان أقدم كتاب بقريتنا للشيخ بلال عبد الجواد وهو الذى علم أبى وأمى وكل رجال ونساء القرية . كان بيته قريبا من شاطىء البحر أى النيل ولا يفصله عنه غير نحو خمسين مترا . وكان البيت من الطوب اللبن ويرتفع عن الأرض نحو نصف متر . وكان حوش الدار وإحدى غرفه هى مكان الكتاب . حيث يجلس الصغار على حصير مهترىء ومتواضع . وبأيديهم الألواح الخشبية يكتبون عليها وأمامهم السبورة . والشيخ بلال يقرأ القرأن والصغار يرددون من خلفه . وكان الشيخ بلال هو معلم القرأن ومعلم مبادىء الحساب  والقراءة والكتابة وكم حفظ كثيرون القرأن على يديه . وكم تتلمذ على يديه أولاد نجباء صاروا لاحقا أساتذة جامعات مثل الدكتور عبده الراجحى وكان أستاذا للأدب العربى بجامعة الاسكندرية  والشاعر عزت الصياد والأديب كمال الدابى وغيره من الأطباء والمهندسين .
كان الشيخ بلال أميل للقصر والامتلاء . أبيض البشرة . نقى صالح نفع الله به كثيرون . وكان ابنه الأستاذ محمد بلال مدرس اللغة العربية هو خطيب الجمعة بالجامع الكبير بعد وفاة الشيخ عبد العليم زيد الذى يمت بصلة قرابة لأمى .
وكان الشيخ بلال مدرس الدين بالمدرسة الابتدائية وهو الذى علم أمى وزميلاتها كيفية الوضوء والصلاة وكان يؤمهم فى صلاة الظهر بالمدرسة بعد أن يطلب منهن إحضار فوطة أو إيشارب  لوضعه على الشعر والرأس . وكلما جاءت سيرته ذكرته  أمى بالحب والتبجيل . ولا ينكر أحد فى القرية كلها فضله على كل الأجيال . وإذا كان رفاعة الطهطاوى وعلى مبارك من بعده هما رواد التعليم فى مصر فإن الشيخ بلال كان رائد التعليم فى قريتنا وقام بدور وزارات التعليم والثقافة والأوقاف والثقافة معا . ولو كان فى عصورنا الميمونة هذه لاعتقلوه بتهمة الا رهاب لأنه يعلم التلاميذ الوضوء والصلاة فى المدرسة ويؤمهم فى الصلاة !
كان الشيخ بلال ابن زمن البركة والفطرة السليمة والصحة والسعادة والقناعة والعطاء بلا حدود قبل أن تخترع الحكومات العربية  الأغانى الوطنية وهات يا غناء وهات ياكسل ولهو وهمبكة ونفاق . وقبل أن يظهر القادة العظام الذين جمعوا كل مراكز الحكم فى أيديهم من الجيش للقضاء للإعلام للتعليم ..حتى الكرة استولو عليها وأمموها وكذلك الغناء والأوبرا وأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم ومحمد فوزى .. والله أمموا شركته لإنتاج الكاسيت بحجة أنه رأسمالى عدو للثورة حتى مرض الرجل ومات !
وعن هذا العصر قال هرقل الأدب العربى عباس العقاد : ( إن الله لن يحاسبنى يوم القيامة لأنى عشت فى زمن جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين ) !
هكذا جاء فى كتاب أنيس منصور ( فى صالون العقاد كانت لنا أيام ) وهو كتاب قيم جدا وجميل جدا وقد قرأته أكثر من مرة . وجاء فيه أيضا أن صلاح سالم أحد ضباط ثورة 23يوليو 1952جمع فى يده عدة وزارات وفوقهم رئاسة صحيفة الجمهورية ونقابة الصحافيين !
هكذا نحن العرب لابد أن يكون عندنا الرجل المظلة أو شيخ القبيلة أو الفرعون الذى يحتكركل شىء لنفسه والجميع من حوله أصفار !
كان الكتاب بندا ثابتا لابد أن يمر به أى طفل مثل ( الدودة ) تماما لابد أن يسرح جميع الأطفال فى الاجازة  الصيفية لتنقية دودة القطن  وكأنها مرحلة فى النمو مثل الرضاعة والطفولة المبكرة . وقد دخلت كتاب الشيخ محمد أبو يوسف مؤذن ومقيم الشعائربالجامع الكبير وكم فرك أذنى بقطعة الطباشير لدرجة أنها كانت ستخرج فى يده . وكم نلنا الضرب بجلدته السميكة خاصة عندما نحدث ضجيجا كلما كان يغفو قليلا . ومرة مربنا فأر فأصابنا الذعر كأطفال صغار فأعمل فينا الضرب بلا هواده .
مدرسة التعذيب
وعندما التحقت بالمدرسة الابتدائية كان التعليم بالنسة لنا حصة للرعب  .وكانت المدرسة مكانا للعقاب والعنف والسادية من قبل مدرسين أقرب للجزارين يستمتعون بضربنا بالخيرزانة وبالشلوت وبالأحذية فمنا من فتحت رأسه ومنا من جلد ظهره وكأنه أحد المسلمين الأوائل وقد وقع فى يد كفار قريش وعتاولة الشرك . ومنا من كان يقضى معظم اليوم الدراسى فى الحمام هربا من الحصص وما يجرى فيها من سلخ وتعذيب وسادية . ومنا من أخذها من قصيرها وترك المدرسة والتعليم بلا رجعة واستراح . وهذا ما يسميه أفندية الوزارة : التسرب من التعليم !
أما من صمد مثلى فقد رأى العجب العجاب وخذ عندك بعض الأمثلة .. كان طابورالصباح مصيدة لنا بحجة أن أظافرنا أو شعرنا أطول من اللازم .وكان الضرب بعود الخيرزان أو بقطعة عريضة من الخشب على ظهر اليد والأصابع وليس على راحة الكف وأحيانا كان المدرس يطلب منا أن نمد أيدينا على شكل حبة الكمثرى لنتلقى العقاب على أطراف أصابعنا . ولكم أن تتخيلوا طفلا دون العاشرة يجلد على ظهره أو على ظهر أصابعه فى عز البرد كيف يكون شعوره تجاه مدرسته ودورها التعليمى التربوى المعنوى التعبوى !
والمأساة أن نشيد الصباح كان يتنافى تماما مع ما نلاقيه . إذ كان يبدأ هكذا : ( نشأنا فى الدقهلية - على خير وحرية – نحيى مجدنا فيها – وفى دار ابن لقمان أسير ..) .أى مجد أوخيرأ وحرية ؟!
أبله بدور
وكانت لدينا مدرسة أتوا بها من المنصورة تدعى ( أبله بدور) .فائقة الجمال . ملفوفة القوام . أشبه بنجمات السينما أو ملكات الجمال . وكانت مصدر صدمة لنا إذ لم تكن النساء هكذا فى قريتنا . فالساقان مكشوفان والشعر مع المكياج جعل منها عروسة فى ليلة زفافها . وكانت مثار حديث كل الرجال وبعض الصبية العفاريت الذين كانوا يقولون : ( الغازية وصلت ) والغازية فى الريف هى الراقصة من الغجر !
كانت أبلة بدور تخرج من حقيبتها شيئا أشبه بالسيجار لا نعرف اسمه ولا ماهو وتظل تأكل فيه قطعة قطعة ونحن فى ذهول . ولم أعرف أن هذا الاختراع اسمه ( الممبار ) إلا عندما حضرت للقاهرة وعرفت طريقى للمسمط  الشعبى  فى حى الحسين وحى السيدة زينب . لم يكن هذا النوع من الطعام معروفا عندنا ولا حتى الأن ولا يزال منظرها وهى تأكل هذا الممبار البنى اللون لا يفارق عينى أبدا وكأنها كانت تأتى فعلا من أفعال السحر .
كانت أبله بدور تأمرنا بأن نأتى لها بالبيض البلدى من بيوتنا فى الغد .فنذهب نبكى لأمهاتنا قائلين : الأبله عايزة بيض . فترضخ الأمهات . ونذهب فى الصباح وفى يد كل منا كيس بيض للأبله . أما التغذية المدرسية من جبن نستو وحلاوة طحينية فكانت الأبله لها بالمرصاد وبمجرد استلامنا لها تقول لنا : ( اللى بيحب الأبله يجيب لها الحلاوة والجبن ياأولاد ) فنجرى وكأننا فى سباق لوضع الحلاوة والجبن على كيس فرشته أمامها . ومن كان يجرؤ ألا يحب الأبله ؟
أما داهية الدواهى فأنها كانت تربوية معملية بحق . باختصار كانت ( ملعب ) أو قل ( مبحبحاها حبتين تلاته أربعه ) فكان إذا جاءها أحد المدرسين لزوم الخمسه الفرفشه قالت لنا : ( اعملوا قمر يا أولاد ) . أى أن نضع رؤسنا بين أيدينا فوق التخت ونغمض عيوننا. فإذا فرغت من القبلات والأحضان و.. قالت لنا : ( اعملوا شمس ياأولاد ) . أى نرفع رؤسنا ونفتح عيوننا . وكان بعض الأولاد العفاريت يختلسون نظرات خاطفة مسروقة بأن يوقع أحدهم القلم الرصاص على الأرض ويمثل أنه ينحنى ليتقطه . ثم يحكى لبقية الأولاد فيما بعد ما أشبه بالأساطير الغامضة . لم نكن قد عرفنا الجنس ولكننا كنا ندرك أن كل ( قمر) وراءه قلة أدب .وكل ( شمس ) معناها أن الأبله عادت لدورها التعليمى التربوى التعبوى الذى لا أذكر منه شيئا !
المبنى للمجهول
لاأذكر شيئا من التعليم حتى فرغت من الاعدادية بدون مبالغة . ولا أعرف كيف نجحت فى الابتدائية ثم الاعدادية . وكل ما أعرفه أن أبله بدور كانت تجمع منا التغذية المدرسية وتأمرنا بإحضار البيض من بيوتنا لحضرة جنابها . ثم فى الاعدادية كان الفصل كله يحصل على درس خصوصى خارجى فى اللغة الانجليزية عند أستاذ يدعى بدير من قرية ( الظهرية ) المجاورة لبلدتنا إلا أنا .وكان لابد من إخضاعى فكتب جملة بالانجليزية على السبورة وطلب منى أن أحولها من المبنى للمعلوم إلى المبنى للمجهول . ولما كانت صعبة ومعقدة عجزت فظل يضربنى بالعصى والأيدى والأقدام وكأننى لص أومجرم شديد البأس  أو مسجل خطر وقع فى أيدى الشرطة ثم أمرنى أن أنتظره خارج الفصل عند باب حجرة الناظر . وكان الناظر من المنصورة طويلا مخيفا أصلع له ملامح الدكتور ايوب مخترع الفنكوش فى فيلم عادل إمام وميرفت أمين . ولما رأنى قال : (وقعتك سودة ) . وكان ممسكا بعصا أطول منى مرة ونص . فأصابنى الذعر وقلت فى نفسى : ( ضرب جوه وضرب بره ) وانتهزت أن باب الحوش كان مفتوحا وهربت واحتميت فى البيت حيث لا تطولنى يد مدرس ولا ناظر !
وعرفت من زملائى أن الناظر أمسك بالميكروفون فى طابور ما بعد الفسحة  وتلى قرار فصلى أسبوعا من المدرسة لأنى هربت وقفزت من فوق سور المدرسة . وبالفعل جاءنى خطاب الفصل وكان أسبوعا جميلا استرحت فيه من العذاب الأزلى الذى هو المدرسة .وكنت أحسد الأولاد الذين تسربوا من التعليم من بدرى وارتاحوا وللان لا أستطيع تحويل الجملة من المبنى للمعلوم إلى المبنى للمجهول ولا أعرف ما الفرق بينهما ولماذا نحولها أصلا كما لا أعرف متى يتحول الحال إلى مصدر ولماذا  وهذة العقدة بدأت  معى منذ الاعدادية !
عقلى
أما مدرس الرياضيات فكان يكتب على السبورة رقما حاصل ضرب أو قسمة أوجمع أو طرح . والمطلوب منا أن نحل اللغز فى ثانية . وكانت المسألة اسمها ( عقلى ) . وكان أغلبية الأولاد يذهبون للحمام هربا من حصته . وكنت أخشاه وعصاه الطويلة . وخوفا من بطشه ذهبت إلى درسه الخصوصى صباح كل يوم . وكان يلقننا حل مسألة ( العقلى ) يوميا قبل أن نذهب للمدرسة . فأظل أرفع يدى طول الحصة : ( أنا يا أستاذ .. أنا يا أستاذ ) . ونعم العملية التعليمية التربوية البطيخية . أليس هذا هو الغش يامرسى وغرسه فى عقول الصغار ؟
وفى الثانوية العامة فكرت أن ألتحق بالطب أوأن أصبح  مخترعا ولكن مدرس الرياضيات عادل عفيفى استولى أيضا  على كل الفصول فى درسه الخصوصى عدا أنا وإيهاب نورى فقط فنالنا الصفر لأربعة شهور متتالية فى جدول أعمال السنة  وشكوت لأبى وكان المدرس يمر على بيتنا وخفت أن يعترضه أبى أوأن  يؤذيه فوجدته أخذه بالسياسة واستضافه فى بيتنا مع زجاجة الكاكولا و ذهبت لدرسه بالنهاية فعدل جميع درجاتى من صفر إلى امتياز ونعم الضمير التربوى التعبوى !..
ابن خلدون
أما مدرس الفلسفة فكان حشاشا بالليل  ويأتينا بالنهار  وهولا يستطيع أن يفتح عينيه من السهر . وكان لا يقدر على التركيز . ولا يعرف منهجا .ولكنه كان ظريفا جدا ومحبوبا من كل الطلبة والمدرسين  وذات مرة ضرب الناظر بالحذاء وسب التعليم والوزارة والبلد لأن الناظر عاتبه على التأخير وكان الناظر مستجدا جاءنا من المنصورة ولم يعرفه بعد . ومرة أخرى سألنى : ( عندكم إيه يابيلى النهاردة ؟) . فقلت له : ( ابن خلدون يا لأستاذ ) . فقال : ( ابن خلون كان راجل طيب ياأولاد وأنا عايز أطلع منكم كل واحد زي ابن خلدون ) . ثم يتكلم عن النساء وعن الكرة وعن أى شيء ونحن غارقين فى الضحك . وهو مستمتع معنا حتى يضرب جرس الحصة . وكانت حصته من أمتع الحصص وننتظرها بفارغ الصبر لنخرج من معتقل المغول أى من كأبة وغل وسادية المدرسين وممارسة هوايتهم فى تعذيبنا !
هكذا تعلمت فى مدارس هى سجون حديدية ومدرسون هم مرضى نفسيون وساديون . وكنا نخرج فى نهاية اليوم الدراسى كعصافير انطلقت من محبسها . لذلك أقول لا أمل فى أى إصلاح فى مصر ولا فى غيرها من الدول العربية لا يبدأ بالتعليم . وهذا لا يتنافى مع وجود نماذج أخرى مضيئة وأمينة وجادة .ولذلك قلت إن الشيخ بلال كان أبوالتعليم فى قريتنا وكان الرائد الحقيقى الذى غرس القيم والقرأن والتربية والسلوك فى العقول قبل أن يغرس ألف باء . ولذلك تجيد أمى اليوم القراءة والكتابة وهى دون الشهادة الابتدائية بينما يتخرج طالب اليوم من الثانوية أو الدبلوم وهو لا يجيد كتابة خطاب أو قراءة صحيفة أونطق اللغة نطقا صحيحا !        

     

الأربعاء، 29 يناير 2014

كل أمهاتنا قاصرات !

نعود لأمى التى لم تزر شربين التى  تبعد عن قريتهاإلا بأقل من عشرين كيلو مترا إلا مرات معدودة . أما المنصورة فلم تزرها أمى خلال نصف قرن إلا مرتين .. الأولى وعمرها أقل من 14 سنة للتسنين بغرض الزواج . وهو لمن لا يعرفه من الأجيال الجديدة . أن يوقع طبيب مختص على شهادة رسمية بأن أمى بلغت سن الزواج . وكان الزواج يتم قديما فى سن صغيرة .غالبا  فى سن 12 و13 سنة . أى يأخذون الطفلة (من الدار للنار ) على رأى المثل وهو المسمى حاليا بزواج القاصرات وكان سن الزواج للفتاة قانونيا 14 سنة ثم رفع إلى 16 ثم  ل 18 سنة حاليا فزادت نسبة العنوسة فى القرى ولا نعرف ماذا يخبىء لنا المجلس القومى للمرأة أيضا وأظن أنه سيظل يرفع سن الزواج ل20 ثم 30 وقد يصل ل50 سنة . ومع اتجاه الفتاة العصرية لتحدى الرجل واعتبارة العدو الأول ومصاص الدماء والشيطان والثعبان الأقرع قد نصل لا ستغناء النساء عن الرجال ويا دار ما دخلك شر ونفضها سيرة !
المهم لم تكن أمى فى زواجها المبكر أعجوبة عصرها بل كانت هكذا كل نساء مصر خاصة فى القرى . أى أن كل جدودنا فى عرف مجلس المرأة الحالى متهمون بتزويج القاصرات . وتذكر أمى للأن أنها كانت تلعب فى الشارع مع الأطفال وكانت تظن أنها ستذهب للبيت الأخر أى بيت جدى وأبى للعب ولم تتصور أنها ستتحمل مسؤلية بيت وحمل وخلافه .بصراحة أمر صعب  وفيه ظلم حقا للفتاة. خاصة أنها حملت بمجرد زفافها فى أخى الأكبر يسرى وتقول إنهاكانت لا تستطيع أن تمشى فى أخرحملها وكانت تمشى مقوسة الظهر وتخجل من أشقائها الكبار وكأنها متهمة . هكذا كانت التربية زمان أما فى زماننا الميمون بعد قوانين ( جيهان وسوزان ) فإن الرجل هو الذى يتوارى خجلا من المرأة وقد يندثر كائن الرجل قريبا ويصير من الأشياء الأسطورية المنقرضة !
أما المرة الثانية التى ذهبت فيها أمى للمنصورة فكانت بعد وفاة أبى وبهدف استئصال الرحم بمستشفى الجامعة . كان ذلك وعمرها نحو خمسين سنة وكنت فى كلية الإعلام أنذاك . وكانت الدنيا لا زالت بخير لحد ما أو هكذا كنت أتصورها قبل أن أفهم وأعرف . والمعرفة قلق ووعى ومسؤلية . وللرسول عليه السلام مقولة : (لو علمتم ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا ). أى أن أمى لم تزر المنصورة غير مرتين وشربين مرات معدودة على الأصابع حتى ذلك التاريخ وكان عالمها محصورا فى بيتها وقريتها وكان بيتها مملكتها . وكانت شاطرة فى تربية الطيور من حمام وأوز وبط ودجاج وأرانب . وذات نفس للأن فى الطهى والعجين والخبيز وشوى السمك فى الفرن . وأشهد أنى عشت طفولة رائعة حتى بما فيها من معاناة أحيانا وتربيت على طعام صحى وطبيعى لم يعد متاحا اليوم لأحد .
تعليمها
فما هو تعليم أمى ؟ أو ثقافتها أو مصادرها للمعرفة ؟ .. حصلت أمى على قدر بسيط من التعليم قبل 1952م أى لرابعة ابتدائى كما تتذكر وأتاح لها ذلك أن تقرأ القرأن الكريم وأى كتاب أو صحيفة أو مجلة تقع فى يدها لدرجة أنها كانت تقيم مقالاتى وموضوعاتى الصحفية عندما عملت بالصحافة وحتى الأن . وتقول لى رأيها الفطرى البسيط ولكنه يكون صوابا دائما وعميقا . وتتابع أمى مقالات سكينة السادات فى مجلة ( حواء ) وهى تتناول موضوعات اجتماعية من زواج وانفصال وفراق. وكلما دخلت البيت بكتب تتصفحها وتختار ما يناسب مزاجها لتقرأه وما عداه لا تلتفت إليه وتصفه بأنه ( هايف ) !
أنبياء الله
وأذكر أنى كنت فى زيارة لبيت الكاتب الجميل الراحل أحمد بهجت فى مصر الجديدة وأهدانى كتابه ( أنبياء الله ) وعدت للبيت فوضعته على المنضدة . فأخذته أمى وظلت تقرأ فيه للساعة الثانية بعد منتصف الليل وكأنها سوف تمتحن فيه باكر ولم تتركه إلا عندما أطفأت الأنوار عليها كى تنام وتريع عينها . وواصلت يوميا القراءة فيه حتى أكملته . وأمى تنجذب عادة للكتب الدينية ولكن انجذابها لهذا الكتاب أنذاك لفت انتباهى وقد حكيت هذه الحكاية لأحمد بهجت ففرح كثيرا وأخبرنى أن بهذا الكتاب سرا لا يعرفه فقد طبع عشرات الطبعات وترجم مثلها وكأنه لم يكتب غيره . وقد قرأت الكتاب لاحقا فوجدته ليس تاريخا للأنبياء بل هو سرد قصصى صوفى لسيرهم الذاتية فى عبارة واضحة وجملة قصيرة وتفسير إنسانى للمواقف التى تعرضوا لها .
بابا شارو
أما المصدر الثانى للمعرفة قبل ظهور التليفزيون فكان الراديو . وأمى سميعة راديو للأن وأنا مثلها . وكانت تتابع برنامج ( ربات البيوت ) الصباحى                 
 الشهير وكلمة الإذاعية صفية المهندس زوجة وتلميذة الإذاعى ( بابا شارو ) كما تتابع ( على الناصية ) لأمال فهمى . وكانت تجمعنا ونحن صغار أولادها الثلاثة على المسلسل الإذاعى الذى يعقب نشرة أخبار الخامسة بالبرنامج العام وكان موعده فى الخامسة والربع بعد الظهر وكانت هناك تمثليات إذاعية شهيرة فى ذلك الوقت . وكانت تتعجب كثيرا من تكرار ذكر صفية المهندس لبابا شارو  فهو الذى علمها وهو أستاذ كل الاذاعيين وهو الكاتب والموسيقى والأب والزوج و..فقلت لها لأنه زوجها . فالإذاعة مثل كل شىء فى مصر عائلية وبالوراثة . فكانت تسألنى عن معنى بابا شارو ! فلا أعرف ماذا أقول ولكنى قلت لها إن اسمه الحقيقى محمود شعبان وهو اسكندرانى . وبصراحة ماما صفية كانت مبالغة حبتين فى تعظيم بابا شارو . وكل فترة تقول : بابا شارو قال وبابا شارو عمل وأنا قلت لبابا شارو لدرجة مستفزة وكأن بابا شارو هو الإذاعة والدنيا كلها ! عموما يا بخته لما زوجته تراه بعيونها وكأنه الدنيا كلها . أما الأن فالزوج هو المنيل والمدهول واللى ما يسمى والعدو المستحق للموت . بالتأكيد زمان كان زمن الاحترام للرجل والمرأة وعندما قرأت مذكرات ولدى أحمد أمين ( جلال وحسين )- وهو بالمناسبة أحد أهم من قرأت لهم فى التراث –وجدت أن زوجته لم تنادى عليه باسمه مجردا أبدا.
دخول التليفزيون
وعندما دخل التليفزيون بيوتنا بعد دخول الكهرباء فى فترة ما بعد حرب أكتوبر 1973 صار مصدرا للأخبار والترفيه خاصة فى رمضان بعد الافطار وكان هناك مسلسل واحد على القناة الأولى وأخر لاحقا على القناة الثانية . وكانت المسلسلات رائعة تأليفا وتمثيلا مثل ( عائلة الدوغرى وليالى الحلمية ورحلة أبوالعلا البشرى وعصفورالنار ) وغيرها . وكان التليفزيون ينهى برامجه فى منتصف الليل . وكان هذا عين الصواب قبل أن يصيبنا طوفان الدراما على كل شكل ولون .. مصرى وسورى وتركى وأمريكى وهندى ويايانى !وزادت الفضائيات العربية عددا وتفاهة وسخافة لدرجة التخمة وما بعد التشبع وصار الإرسال على مدار 24 ساعة وياللعجب والخسارة .وكأننا أمة خلقت للهو !
عموما ظلت أمى وفية للراديو ولم تنجذب للتليفزيون إلا مؤخرا بعد انتشار القنوات الدينية والتى وجدت فيها طريقة عصرية لتعلم أمور دينها . نعم إنها تصلى وتصوم وتؤدى فرائض دينها من صغرها ولكنها لم تكن متبحرة فى الدين وليس مطلوبا منها ذلك.           

 وقبل الراديو والكهرباء والتليفزيون كانت لأمى مصادرها المعرفية بداية من الشيخ بلال ووالدها الشيخ عبد الصمد وأشقائها والحاجة اعتماد ونهاية بأبى وأم على وبنا نحن أولادها الثلاثة ( يسرى وخالد وأنا ) عندما تعلمنا وكبرنا ولنبدأ بالشيخ بلال ..

العشاء فى كنتاكى القمر !

هذا ما كان من احتكاك غريب بثقافة وعادات وتقاليد شعب أخر رغم أن الأتراك قريبون لنا فى العادات الشرقية وديننا واحد فماذا عن احتكاك أمى القروية البسيطة بالقاهرة وناسها وانطباعاتها العفوية ودهشتهها بمجرد نزولها فى محطة مصر . محطة القطارات وقولها إنها فى قدر مساحة قريتنا . وهذا كان انطباعى أنا أيضا عندما زرت القاهرة لأول مرة بصحبة أبى الذى كان فى زيارة لبيت المناضل إبراهيم شكرى فى شارع كورنيش النيل فى الجيزة !     
 لقد دارت الأيام وسافرت أمى للقاهرة وحدها ذهابا وعودة . وركبت المترو وأتت حيث سكنى فى المعادى. وسافرت الاسكندرية وحدها يوم كنت مديرا لمؤسسة دار الهلال بها كما سافرت للأراضى المقدسة فى مكة والمدينة وكنت أنا أتوه إذا ما خرجت من أحد أبواب الحرم دون علامه مسبقة اما هى فلا تتوه وكانت تصل لسكنها بالفندق وحدها . . كل هذا جاء على كبروبعد وفاة أبى .ولكن فى حياته لم تبرح قريتها !
والعلم عند الله ربما أصحب أمى يوما فى رحلة قصيرة لتناول طعام العشاء فى كنتاكى القمر أو المريخ بعد أن يسكنهما البشر ويصبح السفر إليهما سهلا ميسورا . ولكن هل ستظل أمى  على قيد الحياه حتى يتحقق هذا الحلم ؟
ولنبدأ الحكاية من أولها حتى لا نغضب رجال النقد الأدبى ويقولو ا : أين المقدمة والحبكة ثم الذروة والنهاية ؟ ويرطنوا .. فى الواقع والمفروض وبما أن ويجب وهلم جرا .. نقول ونصلى على سيدنا الرسول : يا سادة يا قراء أمى سيدة قروية عادية من أسرة حرفتها الفلاحة ولكنها لم تذهب للأرض أو الغيط إلا مرات معدودة وبعد بكاء وإلحاح على والدها الذى هو جدى وكان ناظرا على الأرض الزراعية فى زمن ماقبل ثورة 1952 وحكم الضباط بقيادة عبد الناصر . وبهذا المعنى كان لا يصح أن تذهب بنت الناظر للأرض مثل بقية قريناتها من الأسر الفقيرة .
قريتنا
وأصل عائلة أمى من أشراف كفر صقر بالشرقية وتواتر من جيل لجيل شفهيا أنهم من أل بيت الرسول . ونزح فرع منهم إلى قرية كفر الترعة الجديد . التابعة لمركز شربين .والقرية عمرها نحو ثلاثمائة عام وجاء ذكرها فى كتاب ( وصف مصر ) للحملة الفرنسية .
وأصل تسميتها ( كفر ترعة منية سنان الدولة ) . وسنان الدولة هذا هو الذى سميت باسمه قرية ( السنانية ) المحازية لنيل دمياط من الجهة المقابلة . وقد صارت اليوم الامتداد الطبيعى لدمياط . وكانت دمياط فى التاريخ القديم ميناء وثغرا حيويا ومهما عن الاسكندرية قبل أن تأتيها المياة النقية بعد حفر محمد على لترعة المحمودية وبعثها من جديد . كما كانت دمياط منفى للمغضوب عليهم سياسيا  وكتاب ( النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة ) لابن تغرى بردى ملىء بعشرات القصص عن نفى أمراء المماليك إليها بمجرد تغير خاطر السلطان عليهم وقد نفى عمر مكرم إليها بعد صدامه مع محمد على وعاش بها ثلاث سنوات نحوسنة 1808م وكان نزلها أول مرة سنة 1798م هربا من الحملة الفرنسية على القاهرة . وكان الدخول لدمياط بتصريح رسمى من ( المحتسب ) الذى كان يقوم بدور الجمارك والشرطة ومباحث التموين والأداب وغيرها وكان هذا التصريح اسمه ( كاغد) كما ذكر د.جمال الشيال فى كتابه المهم عن دمياط .هذا لأولاد الناس أما للعامة فكان يتم ختم الدخول والخروج على ذراع أحدهم  . وكان مكان هذا المحتسب بسوق الحسبة  بمثابة الجمرك . وكان هذا شائعا فى عصور المماليك والعثمانيين . وكان السلاطين يهتمون بتحصين دمياط ضد غزوات الفرنجة من أوربا والمعروفة  بالحملات الصليبية . وقد هدمت وعمرت أكثر من مرة .

المهم أن اسم قريتنا كان طويلا فاضطر الناس لاختصارة إلى ( كفر الترعة ) ولما كانت بجوارنا قرية ( كفر الترعة القديم ) بلدة خيرت الشاطرالقيادى بالاخوان المسلمين والذى ضرب رقما قياسيا فى سنوات اعتقاله لدرجة أن أمه ماتت وهو بالسجن فى نهاية زمن مبارك وأفرجوا عنه لساعات لحضور جنازتها وسط حراسة المئات من أفراد الأمن !..المهم  أصبحت قريتنا ( كفر الترعة الجديد ) . وإلى جوارها من الناحية الأخرى ( رأس الخليج ) وهى قرية قديمة يقال إنها ترجع فى سبب تسميتها إلى خليج أمير المؤمنين الذى تفرع من نهر النيل من عندها . وهى بلدة مليئة بأضرحة الأولياء من سيدى على الحسينى إلى مسجد الأربعين إلى الشيخ بلال وغيره الكثير . وهى بلدة عائلة أبى (البيلى النجار ) فنحن من أل النجار . وتوجد فى القاهرة بجوار مسجد الفتح برمسيس  جمعية لأل النجار فى مصرفى العمارة الملاصقة للجامع وقد قابلت رئيسها المستشار عماد النجار نحو سنة 2006 فى مكتبه بوزارة العدل وكان مساعدا للوزير . ويقال إنهم من بنى النجار فى المدينة المنورة .وإنهم أخوال الرسول . وكعادة الناس زمان رحلوا من هناك لهنا وإلى كل مكان . ولكن تبقى الرواية ولو شفهية تحكى أصل كل حكاية .ويذكر أحد أعمامى أن جدى محمود البيلى قد التقطت له صورة مع الملك فاروق عندما زار تفتيش كفر سعد وبصحبته النقراشى ووزع عقود الأراضى الزراعية على الفلاحين وصلى الجمعة بالابراهيمية القبلية وتناول غذاءه وكان ذلك فى 26 مارس سنة 1948م .ويذكر عمى أن الصورة تصدرت غلاف إحدى المجلات أنذاك . 

الأربعاء، 22 يناير 2014

(1) وهزمنا الأتراك يارجالة !


 ما كان يدور بخلدى أن يوما سيأتى لأصحب أمى فى رحلة للقاهرة ولكن يثبت الزمان أنه كفيل بكل شىء وما كان مستحيلا بالأمس هو اليوم فى حكم المتاح والسهل وغدا لا يعلمه إلا الله ولكنه بالتأكيد يحمل مفاجأت وانجازات مذهلة ستغير وجه الحياة على الأرض وستغير الإنسان إلى حد كبير وإن  بقى فيه إنسانيته كعنوان على  طبيعته البشرية التى إن فقدها تلاشى وانتهى !
رفاعة فى باريس  
سافر الفتى الصعيدى رفاعة الطهطاوى إلى باريس فى القرن التاسع عشر فكتب عن كل ما أثار دهشته وضمه فى كتابه : ( تخليص الإبريز فى تلخيص باريز) وعاد ليتبوأ المناصب العليا فى دولة محمد على وأولاده حتى كون ثروة بلغت قرابة الألفين فدان بعضها بحر ماله وأكثرها عطايا من الوالى  محمد على ومن الخديو إسماعيل وورث الثروة ولداه ( بدوى وعلى فهمى ) .
وعندما سافر طه حسين لفرنسا واستقر فى السوربون حدث له انقلاب مماثل لما حدث له عندما جاء من قريته بالمنيا ليلحق بالتعليم فى الأزهر وهو ماسطره فى كتبه خاصة ( الأيام ) .
وكذلك فعل توفيق الحكيم وعبد الرحمن بدوى وصديقنا المثقف سعيد اللاوندى الذى مكث بباريس 10 سنوات .
ولكن هل فكر أحد فى الكتابة عن القاهرة بزخمها وزحامها بعدسة فلاحة مصرية ؟ٍ هذا ما أفعلة . وهل ظن أحد أن مزارات القاهرة لا تزيد على أضرحة أل بيت الرسول والأولياء والصالحين مثل الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة ؟ هذا ما ننفيه بزيارة الأوبرا والأهرامات ومقهى الفيشاوى .
وحتى نعرف كيف ترى العين الغريبة عن المكان ما لا يراه ابن المكان أو إذا رأه عده شيئا عاديا سأحكى لكم هذه الحكاية الطريفة يوم سكنت فى المدينة الجامعية للطلاب وأنا أدرس بكلية الإعلام فى جامعة القاهرة فى الفترة من 1986 إلى 1990 وكانت تقع فى ( بين السرايات ) فى مكانها الحالى . حيث سكنت مع زميل صحفى بالأهرام الأن وكان دودة مذاكرة فمن أول يوم معه أشعرنى أنى مقصر لأنى كنت أذهب للندوات والمكتبات نهارا وأذهب للمسرح ليلا حيث شاهدت ( دماء على ستار الكعبة ) لفاروق جويدة على المسرح القومى بالعتبة وكانت تدور حول الصراع بين الحرية والاستبداد من خلال قصة هجوم الحجاج على الكعبة بالمنجنيق بأداء رائع لسميحة أيوب ويوسف شعبان وما أذكره من تهديد الحجاج هذا الشعر : ( سأبنى فى قلوب الناس سجنا – وأجعل من مأقيهم وشاحا) ( جعلناها انفتاحا فى انفتاح – وإن شئنا جعلناها انفشاخا ) . ثم أنى كنت أحب القعدة واللمة مع الزملاء الذين صاروا صحافيين الأن وكان زميلى هذا يكره الزيارات وينفخ ويزمجر ولا يتورع عن طردهم فقلت أنفد بجلدى وأسكن مع زميل أخر !
بحثت فى المدينة الجامعية كلها مع مشرفى المبانى حتى عثرت على غرفة بها رجل تركى وفيها سرير شاغر . فقلت تركى تركى المهم أنقل ونقلت ومن أول وهلة تعارفنا . كان اسمه ( عكاش قرة قوش ) من محافظة (مرقش) بجنوب شرق تركيا وكان فى الأربعين . وحضرلمصر من أجل اتقان اللغة العربية بالحضور فى محاضرات أساتذة كلية دار العلوم وكلية الأداب لأنه من أساتذة العربية وعلوم الدين فى بلده . لذلك طلب منى أن أتحدث إليه بالفصحى لأنه لا يعرف العامية فقلت له : (حاضر ) وسألته : هل تشرب معى الشاى ؟ فقال : قليل . أى يشرب وعزم على هو بالشيكولاته ويسمونها ( سكر ) ولأن العربية لغة الضاد فلا يستطيع غير العرب نطق الضاد بل كان ينطقها ظاء هكذا ( تفظل سكر) !
فى اليوم الأول وجدت أن زميلى التركى جاء من بلاده بما لا نتخيله . جاء بالطرشى والمخلل وهم يخللون كل شىء من الليمون والفلفل والخيار حتى الطماطم واللوبيا وكل شىء وكان يشرب أمامى ماء الطرشى باستمتاع غريب أدهشنى وعزم على فرفضت . وكان يأكل شيئا مثل الشعرية عندنا تسمى عندهم ( طرحنة ) .. طبعا أنا الأن وبعد عشرين سنة أشرب مية الطرشى بنفس استمتاع صاحبنا ولله فى خلقه شئون ولا أتعظ من ارتفاع نسبة الأملاح فى جسمى !
المهم فى أول ليلة هم زميلى التركى بالنوم قرابة الثامنة مساء . وكنا فى فصل الصيف وكنت مدمن سهر مثل كل المصريين سهيرة ولا ننام إلا مع الفجر وفينا من ينام بعد شروق الشمس وأغلب سهر المصريين صرمحة وحكاوى فارغة وكنت أحبه للقراءة أما الأن فأنا أعد الرجل المحترم هو من ينام قبل منتصف الليل وأحسد جدودى الذين عاشوا بلا كهرباء ولا نت ولا مياه نقية وكانوا ينامون من بعد صلاة العشاء !
على كل بعد دقائق سحب ( عكاش ) الغطاء عن وجهه وسألنى : متى تنام ؟ كنت أقرأ فى كتاب ( أدب المقالة الصحفية ) لعبد اللطيف حمزة . فأجبته : ليس الأن . فنام قليلا ثم عاد يسألننى بإلحاح وحنق : متى تنام .. متى ..متى ؟ فقلت : ليس الأن وليس قبل منتصف الليل . فنهض من سريره متضايقا وغادر الغرفة ومرعلى الغرف المتراصة على الجانبين فى ممر طويل فوجدها كلها مفتوحة الأبواب والطلبة يتسامرون ويتضاحكون ويدخنون ويشربون الشاى بأصوات عالية وكأننا فى مولد فعاد أكثر حنقا وغيظا وسألنى : المصريون لا ينامون ؟! فأكدت له من جديد أننا نحب السهر لدرجة الإدمان . وطبعا لم أذكر له بقية الحقيقة وهى أننا شعب نقدس اللهو والصرمحة والأونطه وونعتبر الهروب من العمل والمسؤلية شطارة ونصف المجتهد بأنه ( حمار شغل ) والملتزم بأنه ( حنبلى ) .وقد وصفنا أحد الرحالة فى العصور الوسطى بأن المصريين فى لهوهم كأنهم فرغوا من الحساب !
استسلم التركى للأمر الواقع وسحب الغطاء على وجهه وهو يقول لى : أنت تجتهد وأنا أنام . المقصود أنه سلم ورفع الراية البيضاء. فقلت فى نفسى لقد حققت ما عجز عنه محمد على باشا وهزمت الأتراك الذين كبسوا على قلوبنا أربعة قرون .
ولأننا شعب جبار نذيب غيرنا ولا نذوب . فراعنه بصحيح . تحول صديقى التركى 180 درجة وأصبح يحب السهر معى ويطلب منى أن أضبط مؤشر الراديو على صوت أم كلثوم التى كان يحبها وكذلك صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد دون بقية القراء . وبالمقابل كان يضبط المؤشر على صوت فنانة تركية يهيم بها وكان يترجم لى ما تقوله من كلام لحبيبها .
أكثر من هذا اشتريت له بعض القصص وكنت أقرأفيها معه لتدريبه على النطق السليم . وأحيانا أمثل له المعنى الغريب مثل ( هب واقفا ) فكنت أنهض من مقعدى سريعا وأقول له هوذاك !

وكان يرتدى ملابسه القومية التى نجدها فى صور الخديو والأمراء والأكراد العراقيين لليوم من سروال طويل جدا أسود اللون ويتدلى منه حزام . بالبلدى كان أشبه بلباس المراكبية والنجارين زمان وكان يمشى به فى المدينة وحذرته من الخروج به فخرج وعصى أمرى وذهب به لميدان التحرير ولجامعة القاهرة وعاد يقول لى : ( الناس كانت تنظر وتضحك ) فمت على نفسى من الضحك وقلت له : ألم أحذرك !  

مذكرات فلاحة مصرية(مقدمة) /بقلم صلاح البيلى

هذه حكاية عجيبة ترجع لمطلع التسعينيات من القرن العشرين وتحديدا سنة 1992 وبطلتها أمى التى كان عندها أنذاك خمسين عاما تقريبا وكانت لم تخرج من قريتها اللهم إلا إلى شربين أى المركز بعد وفاة أبى لعمل إعلان الوراثة .والثانية إلى المنصورة لإستئصال الرحم بالمستشفى الجامعى . غير ذلك لم تبرح قريتها إلا إلى بلدة رأس الخليج المجاورة والطفل على يديها إذاسنن أى خرجت له أسنان !!
تخيلوا هذه القروية كيف ستكون ردود أفعالها إذا زارت القاهرة أو مصر أم الدنيا كما يطلق عليها الفلاحون والصعايدة .. وتخيلوا أن أمى دخلت الأوبرا ! والله دخلت الأوبرا فكيف كان رد فعلها وماذا قالت ؟
كذلك زارت الأهرامات والحسين والسيدة زينب وحديقة الأ ورمان وغيرها من معالم القاهرة بصحبتى أى قمت بدور المرشد السياحى لها والمحصلة هذه الحكايات .
أمى التى لم تجرؤ على الوقوف على شباك باب بيتنا فى حياة أبى جلست على قهوة الفيشاوى بالحسين وشربت الشاى بالنعناع وتواصلت مع السياح بالإشارة !
إنها قصة عجيبة فيها من العفوية بقدرمافيها من التشويق والإثارة وأترككم مع الحكاية لتعيشوا معها من بدايتها.

هذا وقد نشرت الحكاية على 12 حلقة بصحيفة ( عيون ) الأسبوعية فى الفترة من نوفمبر 1993إلى مارس 1994 ولاقت إعجابا أنذاك ظهر فى كم الخطابات التى كانت تنهال على رئيس تحريرها الأستاذ أحمد فاضل .