الأربعاء، 22 يناير 2014

(1) وهزمنا الأتراك يارجالة !


 ما كان يدور بخلدى أن يوما سيأتى لأصحب أمى فى رحلة للقاهرة ولكن يثبت الزمان أنه كفيل بكل شىء وما كان مستحيلا بالأمس هو اليوم فى حكم المتاح والسهل وغدا لا يعلمه إلا الله ولكنه بالتأكيد يحمل مفاجأت وانجازات مذهلة ستغير وجه الحياة على الأرض وستغير الإنسان إلى حد كبير وإن  بقى فيه إنسانيته كعنوان على  طبيعته البشرية التى إن فقدها تلاشى وانتهى !
رفاعة فى باريس  
سافر الفتى الصعيدى رفاعة الطهطاوى إلى باريس فى القرن التاسع عشر فكتب عن كل ما أثار دهشته وضمه فى كتابه : ( تخليص الإبريز فى تلخيص باريز) وعاد ليتبوأ المناصب العليا فى دولة محمد على وأولاده حتى كون ثروة بلغت قرابة الألفين فدان بعضها بحر ماله وأكثرها عطايا من الوالى  محمد على ومن الخديو إسماعيل وورث الثروة ولداه ( بدوى وعلى فهمى ) .
وعندما سافر طه حسين لفرنسا واستقر فى السوربون حدث له انقلاب مماثل لما حدث له عندما جاء من قريته بالمنيا ليلحق بالتعليم فى الأزهر وهو ماسطره فى كتبه خاصة ( الأيام ) .
وكذلك فعل توفيق الحكيم وعبد الرحمن بدوى وصديقنا المثقف سعيد اللاوندى الذى مكث بباريس 10 سنوات .
ولكن هل فكر أحد فى الكتابة عن القاهرة بزخمها وزحامها بعدسة فلاحة مصرية ؟ٍ هذا ما أفعلة . وهل ظن أحد أن مزارات القاهرة لا تزيد على أضرحة أل بيت الرسول والأولياء والصالحين مثل الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة ؟ هذا ما ننفيه بزيارة الأوبرا والأهرامات ومقهى الفيشاوى .
وحتى نعرف كيف ترى العين الغريبة عن المكان ما لا يراه ابن المكان أو إذا رأه عده شيئا عاديا سأحكى لكم هذه الحكاية الطريفة يوم سكنت فى المدينة الجامعية للطلاب وأنا أدرس بكلية الإعلام فى جامعة القاهرة فى الفترة من 1986 إلى 1990 وكانت تقع فى ( بين السرايات ) فى مكانها الحالى . حيث سكنت مع زميل صحفى بالأهرام الأن وكان دودة مذاكرة فمن أول يوم معه أشعرنى أنى مقصر لأنى كنت أذهب للندوات والمكتبات نهارا وأذهب للمسرح ليلا حيث شاهدت ( دماء على ستار الكعبة ) لفاروق جويدة على المسرح القومى بالعتبة وكانت تدور حول الصراع بين الحرية والاستبداد من خلال قصة هجوم الحجاج على الكعبة بالمنجنيق بأداء رائع لسميحة أيوب ويوسف شعبان وما أذكره من تهديد الحجاج هذا الشعر : ( سأبنى فى قلوب الناس سجنا – وأجعل من مأقيهم وشاحا) ( جعلناها انفتاحا فى انفتاح – وإن شئنا جعلناها انفشاخا ) . ثم أنى كنت أحب القعدة واللمة مع الزملاء الذين صاروا صحافيين الأن وكان زميلى هذا يكره الزيارات وينفخ ويزمجر ولا يتورع عن طردهم فقلت أنفد بجلدى وأسكن مع زميل أخر !
بحثت فى المدينة الجامعية كلها مع مشرفى المبانى حتى عثرت على غرفة بها رجل تركى وفيها سرير شاغر . فقلت تركى تركى المهم أنقل ونقلت ومن أول وهلة تعارفنا . كان اسمه ( عكاش قرة قوش ) من محافظة (مرقش) بجنوب شرق تركيا وكان فى الأربعين . وحضرلمصر من أجل اتقان اللغة العربية بالحضور فى محاضرات أساتذة كلية دار العلوم وكلية الأداب لأنه من أساتذة العربية وعلوم الدين فى بلده . لذلك طلب منى أن أتحدث إليه بالفصحى لأنه لا يعرف العامية فقلت له : (حاضر ) وسألته : هل تشرب معى الشاى ؟ فقال : قليل . أى يشرب وعزم على هو بالشيكولاته ويسمونها ( سكر ) ولأن العربية لغة الضاد فلا يستطيع غير العرب نطق الضاد بل كان ينطقها ظاء هكذا ( تفظل سكر) !
فى اليوم الأول وجدت أن زميلى التركى جاء من بلاده بما لا نتخيله . جاء بالطرشى والمخلل وهم يخللون كل شىء من الليمون والفلفل والخيار حتى الطماطم واللوبيا وكل شىء وكان يشرب أمامى ماء الطرشى باستمتاع غريب أدهشنى وعزم على فرفضت . وكان يأكل شيئا مثل الشعرية عندنا تسمى عندهم ( طرحنة ) .. طبعا أنا الأن وبعد عشرين سنة أشرب مية الطرشى بنفس استمتاع صاحبنا ولله فى خلقه شئون ولا أتعظ من ارتفاع نسبة الأملاح فى جسمى !
المهم فى أول ليلة هم زميلى التركى بالنوم قرابة الثامنة مساء . وكنا فى فصل الصيف وكنت مدمن سهر مثل كل المصريين سهيرة ولا ننام إلا مع الفجر وفينا من ينام بعد شروق الشمس وأغلب سهر المصريين صرمحة وحكاوى فارغة وكنت أحبه للقراءة أما الأن فأنا أعد الرجل المحترم هو من ينام قبل منتصف الليل وأحسد جدودى الذين عاشوا بلا كهرباء ولا نت ولا مياه نقية وكانوا ينامون من بعد صلاة العشاء !
على كل بعد دقائق سحب ( عكاش ) الغطاء عن وجهه وسألنى : متى تنام ؟ كنت أقرأ فى كتاب ( أدب المقالة الصحفية ) لعبد اللطيف حمزة . فأجبته : ليس الأن . فنام قليلا ثم عاد يسألننى بإلحاح وحنق : متى تنام .. متى ..متى ؟ فقلت : ليس الأن وليس قبل منتصف الليل . فنهض من سريره متضايقا وغادر الغرفة ومرعلى الغرف المتراصة على الجانبين فى ممر طويل فوجدها كلها مفتوحة الأبواب والطلبة يتسامرون ويتضاحكون ويدخنون ويشربون الشاى بأصوات عالية وكأننا فى مولد فعاد أكثر حنقا وغيظا وسألنى : المصريون لا ينامون ؟! فأكدت له من جديد أننا نحب السهر لدرجة الإدمان . وطبعا لم أذكر له بقية الحقيقة وهى أننا شعب نقدس اللهو والصرمحة والأونطه وونعتبر الهروب من العمل والمسؤلية شطارة ونصف المجتهد بأنه ( حمار شغل ) والملتزم بأنه ( حنبلى ) .وقد وصفنا أحد الرحالة فى العصور الوسطى بأن المصريين فى لهوهم كأنهم فرغوا من الحساب !
استسلم التركى للأمر الواقع وسحب الغطاء على وجهه وهو يقول لى : أنت تجتهد وأنا أنام . المقصود أنه سلم ورفع الراية البيضاء. فقلت فى نفسى لقد حققت ما عجز عنه محمد على باشا وهزمت الأتراك الذين كبسوا على قلوبنا أربعة قرون .
ولأننا شعب جبار نذيب غيرنا ولا نذوب . فراعنه بصحيح . تحول صديقى التركى 180 درجة وأصبح يحب السهر معى ويطلب منى أن أضبط مؤشر الراديو على صوت أم كلثوم التى كان يحبها وكذلك صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد دون بقية القراء . وبالمقابل كان يضبط المؤشر على صوت فنانة تركية يهيم بها وكان يترجم لى ما تقوله من كلام لحبيبها .
أكثر من هذا اشتريت له بعض القصص وكنت أقرأفيها معه لتدريبه على النطق السليم . وأحيانا أمثل له المعنى الغريب مثل ( هب واقفا ) فكنت أنهض من مقعدى سريعا وأقول له هوذاك !

وكان يرتدى ملابسه القومية التى نجدها فى صور الخديو والأمراء والأكراد العراقيين لليوم من سروال طويل جدا أسود اللون ويتدلى منه حزام . بالبلدى كان أشبه بلباس المراكبية والنجارين زمان وكان يمشى به فى المدينة وحذرته من الخروج به فخرج وعصى أمرى وذهب به لميدان التحرير ولجامعة القاهرة وعاد يقول لى : ( الناس كانت تنظر وتضحك ) فمت على نفسى من الضحك وقلت له : ألم أحذرك !  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق