(6)أمى
فى المدرسة
أدخل جدى الشيخ
عبد الصمد ابنتيه ( وجيدة وزينب ) المدرسة . وزينب هى أمى . ورغم أنها أصغر من أختها
بسنوات إلا أنهما كانتا فى فصل واحد بالمدرسة الابتدائية . وظلت أمى بالمدرسة حتى السنة الرابعة . أى حتى مات والدها فأخرجها أخوتها
الذكور من المدرسة . وقد خرجت وهى تجيد القراءة والكتابة . وتقرأ القرأن وهذا يكفى
لأن ( فيه خبر من كان قبلنا ومن سيأتى بعدنا وهو الفصل ليس بالهزل وحبل الله المتين
من تمسك به نجا ) . هكذا كان التعليم قديما وقبل أن ندخل فى عصورنا الميمونة التى
ينهى فيها الطالب الثانوية العامة أو دبلوم التجارة ولا يستطيع كتابة اسمه !
كما تعلمت أمى
على يد الشيخ بلال أبو عبد الجواد كيفية الوضوء
و الصلاة والصوم . وأتاح لهاذلك لاحقا قراءة الكتب الدينية ومقالاتى والصحف والمجلات
التى أحضرها لها وكل ما يقع تحت بصرها من كتب وتبدى ملاحظات قيمة فيها وكأنها
ناقدة دارسة .
أنبياء الله
وأذكرأن كتاب
الكاتب الراحل أحمد بهجت ( أنبياء الله ) عندما أهدانى إياه بطبعته الخامسة
والعشرين وعدت به للبيت وتركته على تربيزة السفرة بالصالة على أمل أن أقرؤه لاحقا أخذته أمى وظلت تقرأ فيه
يوميا حتى الثانية من بعد منتصف الليل وكأنها سوف تمتحن فيه فى الغد وتعلقت بالكتاب
بشدة وأحبته وهى محقة لأنه كتاب مكتوب بصوفية وروحانية وذوق خاص وليس مجرد تأريخا
لسير الأنبياء . وقد أخبرت أحمد بهجت بذلك فانشرح قلبه وسر كثيرا وأعترف بأن هذا
الكتاب تحديدا فيه سر ما لدرجة طباعته عشرات الطبعات والترجمات . قصدت أن أقول إن
أمى تقرأ وبتركيز وتبدى رأيها فيما تقرؤه وغالبا يكون صوابا .
وتذكرأمى أن أباها
كان يجلسها مساءا تحت قدميه . هو فوق الكنبه وهى على حصيرة فوق الأرض .وعلى نور اللمبة
الجاز نمرة عشرة الكبيرة يسألها : أخذتوا إيه فى المدرسة ؟ سمعى لى .. وكانت أمى تقرأ
فى كتابها وأبى يصحح لها النطق وتتذكرأمى أنها كانت تقرأ فى قصار سور القرأن مثل (
ويل لكل همزة لمزة ) وجدى يصحح لها النطق . وكثيرا ما كان خالى عبد السلام يأتى بكتاب
دينى قديم وكبير يقرأ فيه وجدى وأولاده من حوله يستمعون إليه .
الكلوب أبو
رتينه
ولم يكن إلى ذلك
الوقت (الكلوب أبو رتينه) معروفا أنذاك إلا فى مناسبات الأفراح والمأتم فقط وكان يستأجر
ومن يمتلك واحدا كمن امتلك شيئا من رفاهية الحياة اليوم .وهذا الكلوب كان موجودا فى المقاهى القليلة
الموجودة فى القرية . وكان يسأجر من شخص يدعى عبد المنعم الدمياطى مع الميكرفون فى
الأفراح والمأتم .وكان أبى يسأجر عددا منها كلما أقام ليلة لله بمناسبة المولد
النبوى وكان يأتى بالسادة الشاذلية لإحياء الليلة الرائعة التى تنتهى بميلاد
الرسول ثم يستريح الجميع لشرب أقداح اللبن والقرفة وحلاوة المولد ثم يأخذون بضعة
قروش فى أخر السهرة .وكانت طقوس إشعال الكلوب بالكباس وطريقة ربط الرتينة من
المهارة بمكان ولا يجيدها إلا متخصص وكأنه سوف يشغل المفاعل النووى . وإذا سقطت
الرتينة وانطفىء نور الكلوب فجأة تكون مشكلة ولابد من تركيب رتينة أخرى على وجه
السرعة .
سلخ الحمير
الميتة
كانت أمى فى طريقها
للمدرسة ترى بعض الرجال الذين يسلخون الحمير الميتة على شاطىء الترعة التى تشق القرية
ليأخذوا جلودها للمدابغ لصناعة الأحذية والحقائب الجلدية وكانت هذه ظاهرة ظلت حتى
رأيتها بنفسى . وكانت أمى تظن لصغرها وقلة خبرتها بالحياة أن اللحمة التى يأكلونها
فى البيت هى نفس اللحمة المسلوخة فأضربت عن تناول اللحم لسنوات ومنعها خجلها من الاعتراف
بالسبب . ولم تفهم الحقيقة إلا على كبر . وكان أبوها يقول لها فى كل مرة تمتنع
فيها عن تناول اللحم : ( إللى بياكل على ضرسه بينفع نفسة ) !
أغانى المدرسة
وفى المدرسة كانت
أمى تغنى مع قريناتها وهن يضربن على التختة بين الحصص وفى الفسحة أغانى عديدة تذكر
منها هذه الكلمات من أغنية لطيفة تقول : (
مدرستى بتفتح بدرى – واخد غدايا واجرى – واجرى من تحت الكوبرى – واقول ياناس سيبونى
– هاتعطلونى – على ميعاد المدرسة – ناخد إملا وهندسة ) . ويغنون أيضا : ( درجى ده مفتحهوشى
– إلا بأمر لافندية ) . وكن يغنين للفاشلة منهن : ( اتغشى ياساقطة من السبورة ) . .
كانت هذه أخر أيام الملكية وأول أيام ثورة
23 يوليو 1952 ولم يكن يعرفن فى هذه الأيام غيراسم الملك فاروق واللواء محمد نجيب وكن
يهتفن عند الخروج من المدرسة : ( عاش نجيب كتير كتير خلا فاروق يبيع جرجير ) !
كانت المدرسة مصدر
السعادة والبهجة لأمى وكانت تتحصل على قدر وفير من الحلاوة الطحينية والفول السودانى
والخبز الأسمر وطبق الفول وقطعة الجبن الأبيض وغير ذلك من التغذية المدرسية زمان .
وكان المدرسون يرتدون ملابس مشايخ الأزهر حيث كان القضاء الشرعى موجودا قبل أن يلغيه
عبد الناصر بجرة قلم . وكان هناك مدرسون أخرون يرتدون البدلة الأفرنجى والطربوش . وكانت
التلميذة الشاطرة تتحصل من المدرس وكان اسمه
( الخوجه ) على بضعة ملاليم أو تعريفه بحاله أى خمسة ملاليم وكانت عادة من نصيب أمى
فتذهب وزميلاتها إلى دكان بلال أبو عوض الله البقال و تشترى الكراملة الخضراء أم نعناع
وتفرقها عليهن .وتتذكر أمى القرش الصاغ الأحمر المشرشر الذى تعلوه صورة
الملك فاروق ملك مصر والسودان . كما تذكر التعريفة الأبيض وعليه صور فاروق وكذلك
المليم .
وتذكر أن أمها
عندما ماتت . وكان اسمها ( نعيمة عبد الحى سالم ) كان بيتهم ملىء بالكلوبات المضاءة
ليلا والقارىء يقرأ القرأن بينما كانت هى سعيدة
بهذه الأنواروهذا الحدث الاحتفالى وكانت تغنى
كطفلة لا تدرك شيئا عما يدور حولها بينما الكبار يبكون ! وكان لها سؤال واحد لأبيهافى كل حين هو : ( العيد
إمتى يابا ) وكان يرد عليها ردا واحدا لا يتغير هو : ( حالا ) .
رمضان
كان العيد يأتى
صيفا بعد رمضان . ولم تكن هناك لا كهرباء ولا مياه ولا ثلاجات فكانت ونساء العائلة
يملأن قلل الفخار والزير الكبير من ماء النيل ويضعن فيه بعض نوى المشمش والبلح والشبه
للتنقية . حيث يترسب الطمى فى القاع . ويتركن القلل فى الفراندا عصرا فى صينية من
النحاس ليبرد الماء . وعندما ينطلق مدفع الافطار والأذان يأتى عصير العرقسوس والتمرهندى والخروب ثم الصوانى تلو
الصوانى .. صوانى البط البلدى ثم صوانى المكرونة باللبن والأرز باللبن ثم المكسرات
وبعد صلاتى المغرب والعشاء ثم التراويح يكون الفطير والكماج والجبن والقشدة والمش
. هكذا كانت حياتهم . وهات ياسمر طول الليل .
مبيض النحاس
كان الطعام
يطهى فى أوانى النحاس . ولم تكن أوانى
الألومونيا قد عرفت بعد . وكان للنحاس رجل متخصص فى تنظيفه كل فترة من الوقت اسمه
( مبيض النحاس ) . كان يمر على البيوت فتقدم له النسوة الطشوت وحلل النحاس الكبيرة
فيضعها على الأرض ويقف فى وسطها بقدميه العاريتين ويأخذ فى الدوران يمينا وشمالا
بكل ثقل جسمه أظن على خرقة بالية حتى يلمع النحاس ويستعيد رونقه .
وكان النحاس
ثروة وقيمة فى البيت .وكان مخزنا للقيمة مثل الذهب لدرجة أن الأسرة كانت تبيع بعضه
عند الحاجة . وقد باعت أمى نحاسها لمساعدة أبى فى بناء بيت العائلة عندما استقل
بأسرته عن بيت جدى .وكان كل جهاز العروس من النحاس ..السرير النحاس المرتفع عن
الأرض ذو الأعمدة والناموسية لحجب الناموس عن النائم . بالطبع فى بيئة زراعية كان
يكثر البعوض وكانت الناموسية من قماش الشاش الرقيق مهمة جدا .أيضا الطشت الكبير
والحلل العميقة للعجين والحلل الصغيرة والأبريق والصوانى من النحاس .وكان من العار
أن تدخل عروس بغير النحاس وتصير فضيحة ونكتة البلد كلها . هكذا كان العرف أن يكون
الجهاز أوالشوار أوالأثاث من النحاس .قبل أن ندخل عصر الألومونيا والصفيح والناس
أشباه الناس الذين ليس لهم من الناس غير وجوه بنى أدم !
الموقد البلدى
كان الطعام
يسوى على نار الموقد البلدى المصنوع من قوالب طوب متواجهة .ويظل مثلا دكر البط على
النار لساعات وست البيت تغذى النار بالحطب والخشب .فإذا حل موعد الغذاء أوالعشاء
كانت النسيرة من البط مع طبق الشوربة حكاية ولا حكايات ألف ليلة . وكان المذاق
كالسحر أو الأسطورة .أما الشاى المغلى فكان يجهز على رماد الفرن فيأتى مذاقه ساحرا
.هكذا عشت طفولتى . أما القرفة باللبن فكانت مشروب بيتنا والضيوف فى ليلة مولد
النبى إذ كان أبى يأتى بالسادة الشاذلية ويحيون ليلة لا تنسى فى الدار . وبعد أن
يفرغوا توزع على الجميع القرفة باللبن والحلوى والشيكولاته والملبس . وكنا نستعد
لهذه الليلة بمسح البيت من الداخل والخارج ورش الماء ثم فرد الحصر واستئجار كلوبات
الانارة وتكون ليلة مشهودة من الذكر جلوسا بهدوء ثم وقوفا عندما يشتد الذكر بحماس
ويعلو صوت المنشدين عند قرب ميلاد الرسول حيث يذكر المنشدون قصة الرسول من جدوده
حتى حمل أمه السيدة أمنة بنت وهب به شهرا وراء شهرحتى لحظة مولده عليه الصلاة
والسلام .كانت الليلة من ليالى البهجة
العامرة بالبركة . و كان أبى مؤمنا شديد الايمان بفطرته وحج ثلاث مرات ولم ينقطع
عن صلاة الفجر حتى مات وهوابن 51سنة وكان يجاهربالحق ويفعل المعروف فى السر .وكان
يحفظ من القرأن والشعر ويحسب أعقد عملية حسابية بعقله فى ثوانى دون ورقة أوقلم
.وكان يسخر منا عندما نمسك بالقلم لحساب مسألة ما ويحلها قبلنا فى رأسه .
ألم أقل لكم إنهم
لم يكونواقد اخترعوا الحكومة ولا عرفوا النكد ولا الفواتير ولا الغلاء ولا الأمراض
.. لدرجة أن جدى الشيخ عبد الصمد لم يمرض إلا فى شيخوخته وقبل موته وهو المرض الذى
جعله يسافر للقاهرة ويذهب للأطباء وكان مرشدة فى ذلك الصحفى بالأهرام أنذاك زكريا نيل
الذى يعتبر جدى كجده وكثيرا ما كلمنى لا حقا لما كبرت عن جدى صاحب الفضل الأول عليه
فى تعليمه.وصاحب الأيادى البيضاء على عائلته كلها .
وكان جدى يصطحب
أمى أمامه على الحمار أو الركوبة أو الكارته وهو ذاهب للغيط وهى طفلة وتتمنى أن تظل
أمى مع الصغيرات اللائى كن يسرحن فى (الدودة ) أى فى تنقية القطن من الدود .وتحب أن
تلعب معهن ولكن جدى كان يأخذها معه عند عودته . وتبكى أمى وتتمنى لوبقيت معهن ولكن لم يكن يصح أن تكون بنت حضرة الناظر مع الفلاحات
العاملات فى الأرض بأجرفأمى إبنة فلاحين نعم ولكنها ليست فلاحة بالمعنى الحقيقى !
هذه هى أمى بخلفيتها
ونشأتها وظروفها ولكم أن تتخيلوا كيف استعدت للسفر للقاهرة . أومصر أم الدنيا ؟.. وهذا
ما سنشرحه فى الفصل التالى .