الأربعاء، 29 يناير 2014

كل أمهاتنا قاصرات !

نعود لأمى التى لم تزر شربين التى  تبعد عن قريتهاإلا بأقل من عشرين كيلو مترا إلا مرات معدودة . أما المنصورة فلم تزرها أمى خلال نصف قرن إلا مرتين .. الأولى وعمرها أقل من 14 سنة للتسنين بغرض الزواج . وهو لمن لا يعرفه من الأجيال الجديدة . أن يوقع طبيب مختص على شهادة رسمية بأن أمى بلغت سن الزواج . وكان الزواج يتم قديما فى سن صغيرة .غالبا  فى سن 12 و13 سنة . أى يأخذون الطفلة (من الدار للنار ) على رأى المثل وهو المسمى حاليا بزواج القاصرات وكان سن الزواج للفتاة قانونيا 14 سنة ثم رفع إلى 16 ثم  ل 18 سنة حاليا فزادت نسبة العنوسة فى القرى ولا نعرف ماذا يخبىء لنا المجلس القومى للمرأة أيضا وأظن أنه سيظل يرفع سن الزواج ل20 ثم 30 وقد يصل ل50 سنة . ومع اتجاه الفتاة العصرية لتحدى الرجل واعتبارة العدو الأول ومصاص الدماء والشيطان والثعبان الأقرع قد نصل لا ستغناء النساء عن الرجال ويا دار ما دخلك شر ونفضها سيرة !
المهم لم تكن أمى فى زواجها المبكر أعجوبة عصرها بل كانت هكذا كل نساء مصر خاصة فى القرى . أى أن كل جدودنا فى عرف مجلس المرأة الحالى متهمون بتزويج القاصرات . وتذكر أمى للأن أنها كانت تلعب فى الشارع مع الأطفال وكانت تظن أنها ستذهب للبيت الأخر أى بيت جدى وأبى للعب ولم تتصور أنها ستتحمل مسؤلية بيت وحمل وخلافه .بصراحة أمر صعب  وفيه ظلم حقا للفتاة. خاصة أنها حملت بمجرد زفافها فى أخى الأكبر يسرى وتقول إنهاكانت لا تستطيع أن تمشى فى أخرحملها وكانت تمشى مقوسة الظهر وتخجل من أشقائها الكبار وكأنها متهمة . هكذا كانت التربية زمان أما فى زماننا الميمون بعد قوانين ( جيهان وسوزان ) فإن الرجل هو الذى يتوارى خجلا من المرأة وقد يندثر كائن الرجل قريبا ويصير من الأشياء الأسطورية المنقرضة !
أما المرة الثانية التى ذهبت فيها أمى للمنصورة فكانت بعد وفاة أبى وبهدف استئصال الرحم بمستشفى الجامعة . كان ذلك وعمرها نحو خمسين سنة وكنت فى كلية الإعلام أنذاك . وكانت الدنيا لا زالت بخير لحد ما أو هكذا كنت أتصورها قبل أن أفهم وأعرف . والمعرفة قلق ووعى ومسؤلية . وللرسول عليه السلام مقولة : (لو علمتم ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا ). أى أن أمى لم تزر المنصورة غير مرتين وشربين مرات معدودة على الأصابع حتى ذلك التاريخ وكان عالمها محصورا فى بيتها وقريتها وكان بيتها مملكتها . وكانت شاطرة فى تربية الطيور من حمام وأوز وبط ودجاج وأرانب . وذات نفس للأن فى الطهى والعجين والخبيز وشوى السمك فى الفرن . وأشهد أنى عشت طفولة رائعة حتى بما فيها من معاناة أحيانا وتربيت على طعام صحى وطبيعى لم يعد متاحا اليوم لأحد .
تعليمها
فما هو تعليم أمى ؟ أو ثقافتها أو مصادرها للمعرفة ؟ .. حصلت أمى على قدر بسيط من التعليم قبل 1952م أى لرابعة ابتدائى كما تتذكر وأتاح لها ذلك أن تقرأ القرأن الكريم وأى كتاب أو صحيفة أو مجلة تقع فى يدها لدرجة أنها كانت تقيم مقالاتى وموضوعاتى الصحفية عندما عملت بالصحافة وحتى الأن . وتقول لى رأيها الفطرى البسيط ولكنه يكون صوابا دائما وعميقا . وتتابع أمى مقالات سكينة السادات فى مجلة ( حواء ) وهى تتناول موضوعات اجتماعية من زواج وانفصال وفراق. وكلما دخلت البيت بكتب تتصفحها وتختار ما يناسب مزاجها لتقرأه وما عداه لا تلتفت إليه وتصفه بأنه ( هايف ) !
أنبياء الله
وأذكر أنى كنت فى زيارة لبيت الكاتب الجميل الراحل أحمد بهجت فى مصر الجديدة وأهدانى كتابه ( أنبياء الله ) وعدت للبيت فوضعته على المنضدة . فأخذته أمى وظلت تقرأ فيه للساعة الثانية بعد منتصف الليل وكأنها سوف تمتحن فيه باكر ولم تتركه إلا عندما أطفأت الأنوار عليها كى تنام وتريع عينها . وواصلت يوميا القراءة فيه حتى أكملته . وأمى تنجذب عادة للكتب الدينية ولكن انجذابها لهذا الكتاب أنذاك لفت انتباهى وقد حكيت هذه الحكاية لأحمد بهجت ففرح كثيرا وأخبرنى أن بهذا الكتاب سرا لا يعرفه فقد طبع عشرات الطبعات وترجم مثلها وكأنه لم يكتب غيره . وقد قرأت الكتاب لاحقا فوجدته ليس تاريخا للأنبياء بل هو سرد قصصى صوفى لسيرهم الذاتية فى عبارة واضحة وجملة قصيرة وتفسير إنسانى للمواقف التى تعرضوا لها .
بابا شارو
أما المصدر الثانى للمعرفة قبل ظهور التليفزيون فكان الراديو . وأمى سميعة راديو للأن وأنا مثلها . وكانت تتابع برنامج ( ربات البيوت ) الصباحى                 
 الشهير وكلمة الإذاعية صفية المهندس زوجة وتلميذة الإذاعى ( بابا شارو ) كما تتابع ( على الناصية ) لأمال فهمى . وكانت تجمعنا ونحن صغار أولادها الثلاثة على المسلسل الإذاعى الذى يعقب نشرة أخبار الخامسة بالبرنامج العام وكان موعده فى الخامسة والربع بعد الظهر وكانت هناك تمثليات إذاعية شهيرة فى ذلك الوقت . وكانت تتعجب كثيرا من تكرار ذكر صفية المهندس لبابا شارو  فهو الذى علمها وهو أستاذ كل الاذاعيين وهو الكاتب والموسيقى والأب والزوج و..فقلت لها لأنه زوجها . فالإذاعة مثل كل شىء فى مصر عائلية وبالوراثة . فكانت تسألنى عن معنى بابا شارو ! فلا أعرف ماذا أقول ولكنى قلت لها إن اسمه الحقيقى محمود شعبان وهو اسكندرانى . وبصراحة ماما صفية كانت مبالغة حبتين فى تعظيم بابا شارو . وكل فترة تقول : بابا شارو قال وبابا شارو عمل وأنا قلت لبابا شارو لدرجة مستفزة وكأن بابا شارو هو الإذاعة والدنيا كلها ! عموما يا بخته لما زوجته تراه بعيونها وكأنه الدنيا كلها . أما الأن فالزوج هو المنيل والمدهول واللى ما يسمى والعدو المستحق للموت . بالتأكيد زمان كان زمن الاحترام للرجل والمرأة وعندما قرأت مذكرات ولدى أحمد أمين ( جلال وحسين )- وهو بالمناسبة أحد أهم من قرأت لهم فى التراث –وجدت أن زوجته لم تنادى عليه باسمه مجردا أبدا.
دخول التليفزيون
وعندما دخل التليفزيون بيوتنا بعد دخول الكهرباء فى فترة ما بعد حرب أكتوبر 1973 صار مصدرا للأخبار والترفيه خاصة فى رمضان بعد الافطار وكان هناك مسلسل واحد على القناة الأولى وأخر لاحقا على القناة الثانية . وكانت المسلسلات رائعة تأليفا وتمثيلا مثل ( عائلة الدوغرى وليالى الحلمية ورحلة أبوالعلا البشرى وعصفورالنار ) وغيرها . وكان التليفزيون ينهى برامجه فى منتصف الليل . وكان هذا عين الصواب قبل أن يصيبنا طوفان الدراما على كل شكل ولون .. مصرى وسورى وتركى وأمريكى وهندى ويايانى !وزادت الفضائيات العربية عددا وتفاهة وسخافة لدرجة التخمة وما بعد التشبع وصار الإرسال على مدار 24 ساعة وياللعجب والخسارة .وكأننا أمة خلقت للهو !
عموما ظلت أمى وفية للراديو ولم تنجذب للتليفزيون إلا مؤخرا بعد انتشار القنوات الدينية والتى وجدت فيها طريقة عصرية لتعلم أمور دينها . نعم إنها تصلى وتصوم وتؤدى فرائض دينها من صغرها ولكنها لم تكن متبحرة فى الدين وليس مطلوبا منها ذلك.           

 وقبل الراديو والكهرباء والتليفزيون كانت لأمى مصادرها المعرفية بداية من الشيخ بلال ووالدها الشيخ عبد الصمد وأشقائها والحاجة اعتماد ونهاية بأبى وأم على وبنا نحن أولادها الثلاثة ( يسرى وخالد وأنا ) عندما تعلمنا وكبرنا ولنبدأ بالشيخ بلال ..

العشاء فى كنتاكى القمر !

هذا ما كان من احتكاك غريب بثقافة وعادات وتقاليد شعب أخر رغم أن الأتراك قريبون لنا فى العادات الشرقية وديننا واحد فماذا عن احتكاك أمى القروية البسيطة بالقاهرة وناسها وانطباعاتها العفوية ودهشتهها بمجرد نزولها فى محطة مصر . محطة القطارات وقولها إنها فى قدر مساحة قريتنا . وهذا كان انطباعى أنا أيضا عندما زرت القاهرة لأول مرة بصحبة أبى الذى كان فى زيارة لبيت المناضل إبراهيم شكرى فى شارع كورنيش النيل فى الجيزة !     
 لقد دارت الأيام وسافرت أمى للقاهرة وحدها ذهابا وعودة . وركبت المترو وأتت حيث سكنى فى المعادى. وسافرت الاسكندرية وحدها يوم كنت مديرا لمؤسسة دار الهلال بها كما سافرت للأراضى المقدسة فى مكة والمدينة وكنت أنا أتوه إذا ما خرجت من أحد أبواب الحرم دون علامه مسبقة اما هى فلا تتوه وكانت تصل لسكنها بالفندق وحدها . . كل هذا جاء على كبروبعد وفاة أبى .ولكن فى حياته لم تبرح قريتها !
والعلم عند الله ربما أصحب أمى يوما فى رحلة قصيرة لتناول طعام العشاء فى كنتاكى القمر أو المريخ بعد أن يسكنهما البشر ويصبح السفر إليهما سهلا ميسورا . ولكن هل ستظل أمى  على قيد الحياه حتى يتحقق هذا الحلم ؟
ولنبدأ الحكاية من أولها حتى لا نغضب رجال النقد الأدبى ويقولو ا : أين المقدمة والحبكة ثم الذروة والنهاية ؟ ويرطنوا .. فى الواقع والمفروض وبما أن ويجب وهلم جرا .. نقول ونصلى على سيدنا الرسول : يا سادة يا قراء أمى سيدة قروية عادية من أسرة حرفتها الفلاحة ولكنها لم تذهب للأرض أو الغيط إلا مرات معدودة وبعد بكاء وإلحاح على والدها الذى هو جدى وكان ناظرا على الأرض الزراعية فى زمن ماقبل ثورة 1952 وحكم الضباط بقيادة عبد الناصر . وبهذا المعنى كان لا يصح أن تذهب بنت الناظر للأرض مثل بقية قريناتها من الأسر الفقيرة .
قريتنا
وأصل عائلة أمى من أشراف كفر صقر بالشرقية وتواتر من جيل لجيل شفهيا أنهم من أل بيت الرسول . ونزح فرع منهم إلى قرية كفر الترعة الجديد . التابعة لمركز شربين .والقرية عمرها نحو ثلاثمائة عام وجاء ذكرها فى كتاب ( وصف مصر ) للحملة الفرنسية .
وأصل تسميتها ( كفر ترعة منية سنان الدولة ) . وسنان الدولة هذا هو الذى سميت باسمه قرية ( السنانية ) المحازية لنيل دمياط من الجهة المقابلة . وقد صارت اليوم الامتداد الطبيعى لدمياط . وكانت دمياط فى التاريخ القديم ميناء وثغرا حيويا ومهما عن الاسكندرية قبل أن تأتيها المياة النقية بعد حفر محمد على لترعة المحمودية وبعثها من جديد . كما كانت دمياط منفى للمغضوب عليهم سياسيا  وكتاب ( النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة ) لابن تغرى بردى ملىء بعشرات القصص عن نفى أمراء المماليك إليها بمجرد تغير خاطر السلطان عليهم وقد نفى عمر مكرم إليها بعد صدامه مع محمد على وعاش بها ثلاث سنوات نحوسنة 1808م وكان نزلها أول مرة سنة 1798م هربا من الحملة الفرنسية على القاهرة . وكان الدخول لدمياط بتصريح رسمى من ( المحتسب ) الذى كان يقوم بدور الجمارك والشرطة ومباحث التموين والأداب وغيرها وكان هذا التصريح اسمه ( كاغد) كما ذكر د.جمال الشيال فى كتابه المهم عن دمياط .هذا لأولاد الناس أما للعامة فكان يتم ختم الدخول والخروج على ذراع أحدهم  . وكان مكان هذا المحتسب بسوق الحسبة  بمثابة الجمرك . وكان هذا شائعا فى عصور المماليك والعثمانيين . وكان السلاطين يهتمون بتحصين دمياط ضد غزوات الفرنجة من أوربا والمعروفة  بالحملات الصليبية . وقد هدمت وعمرت أكثر من مرة .

المهم أن اسم قريتنا كان طويلا فاضطر الناس لاختصارة إلى ( كفر الترعة ) ولما كانت بجوارنا قرية ( كفر الترعة القديم ) بلدة خيرت الشاطرالقيادى بالاخوان المسلمين والذى ضرب رقما قياسيا فى سنوات اعتقاله لدرجة أن أمه ماتت وهو بالسجن فى نهاية زمن مبارك وأفرجوا عنه لساعات لحضور جنازتها وسط حراسة المئات من أفراد الأمن !..المهم  أصبحت قريتنا ( كفر الترعة الجديد ) . وإلى جوارها من الناحية الأخرى ( رأس الخليج ) وهى قرية قديمة يقال إنها ترجع فى سبب تسميتها إلى خليج أمير المؤمنين الذى تفرع من نهر النيل من عندها . وهى بلدة مليئة بأضرحة الأولياء من سيدى على الحسينى إلى مسجد الأربعين إلى الشيخ بلال وغيره الكثير . وهى بلدة عائلة أبى (البيلى النجار ) فنحن من أل النجار . وتوجد فى القاهرة بجوار مسجد الفتح برمسيس  جمعية لأل النجار فى مصرفى العمارة الملاصقة للجامع وقد قابلت رئيسها المستشار عماد النجار نحو سنة 2006 فى مكتبه بوزارة العدل وكان مساعدا للوزير . ويقال إنهم من بنى النجار فى المدينة المنورة .وإنهم أخوال الرسول . وكعادة الناس زمان رحلوا من هناك لهنا وإلى كل مكان . ولكن تبقى الرواية ولو شفهية تحكى أصل كل حكاية .ويذكر أحد أعمامى أن جدى محمود البيلى قد التقطت له صورة مع الملك فاروق عندما زار تفتيش كفر سعد وبصحبته النقراشى ووزع عقود الأراضى الزراعية على الفلاحين وصلى الجمعة بالابراهيمية القبلية وتناول غذاءه وكان ذلك فى 26 مارس سنة 1948م .ويذكر عمى أن الصورة تصدرت غلاف إحدى المجلات أنذاك . 

الأربعاء، 22 يناير 2014

(1) وهزمنا الأتراك يارجالة !


 ما كان يدور بخلدى أن يوما سيأتى لأصحب أمى فى رحلة للقاهرة ولكن يثبت الزمان أنه كفيل بكل شىء وما كان مستحيلا بالأمس هو اليوم فى حكم المتاح والسهل وغدا لا يعلمه إلا الله ولكنه بالتأكيد يحمل مفاجأت وانجازات مذهلة ستغير وجه الحياة على الأرض وستغير الإنسان إلى حد كبير وإن  بقى فيه إنسانيته كعنوان على  طبيعته البشرية التى إن فقدها تلاشى وانتهى !
رفاعة فى باريس  
سافر الفتى الصعيدى رفاعة الطهطاوى إلى باريس فى القرن التاسع عشر فكتب عن كل ما أثار دهشته وضمه فى كتابه : ( تخليص الإبريز فى تلخيص باريز) وعاد ليتبوأ المناصب العليا فى دولة محمد على وأولاده حتى كون ثروة بلغت قرابة الألفين فدان بعضها بحر ماله وأكثرها عطايا من الوالى  محمد على ومن الخديو إسماعيل وورث الثروة ولداه ( بدوى وعلى فهمى ) .
وعندما سافر طه حسين لفرنسا واستقر فى السوربون حدث له انقلاب مماثل لما حدث له عندما جاء من قريته بالمنيا ليلحق بالتعليم فى الأزهر وهو ماسطره فى كتبه خاصة ( الأيام ) .
وكذلك فعل توفيق الحكيم وعبد الرحمن بدوى وصديقنا المثقف سعيد اللاوندى الذى مكث بباريس 10 سنوات .
ولكن هل فكر أحد فى الكتابة عن القاهرة بزخمها وزحامها بعدسة فلاحة مصرية ؟ٍ هذا ما أفعلة . وهل ظن أحد أن مزارات القاهرة لا تزيد على أضرحة أل بيت الرسول والأولياء والصالحين مثل الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة ؟ هذا ما ننفيه بزيارة الأوبرا والأهرامات ومقهى الفيشاوى .
وحتى نعرف كيف ترى العين الغريبة عن المكان ما لا يراه ابن المكان أو إذا رأه عده شيئا عاديا سأحكى لكم هذه الحكاية الطريفة يوم سكنت فى المدينة الجامعية للطلاب وأنا أدرس بكلية الإعلام فى جامعة القاهرة فى الفترة من 1986 إلى 1990 وكانت تقع فى ( بين السرايات ) فى مكانها الحالى . حيث سكنت مع زميل صحفى بالأهرام الأن وكان دودة مذاكرة فمن أول يوم معه أشعرنى أنى مقصر لأنى كنت أذهب للندوات والمكتبات نهارا وأذهب للمسرح ليلا حيث شاهدت ( دماء على ستار الكعبة ) لفاروق جويدة على المسرح القومى بالعتبة وكانت تدور حول الصراع بين الحرية والاستبداد من خلال قصة هجوم الحجاج على الكعبة بالمنجنيق بأداء رائع لسميحة أيوب ويوسف شعبان وما أذكره من تهديد الحجاج هذا الشعر : ( سأبنى فى قلوب الناس سجنا – وأجعل من مأقيهم وشاحا) ( جعلناها انفتاحا فى انفتاح – وإن شئنا جعلناها انفشاخا ) . ثم أنى كنت أحب القعدة واللمة مع الزملاء الذين صاروا صحافيين الأن وكان زميلى هذا يكره الزيارات وينفخ ويزمجر ولا يتورع عن طردهم فقلت أنفد بجلدى وأسكن مع زميل أخر !
بحثت فى المدينة الجامعية كلها مع مشرفى المبانى حتى عثرت على غرفة بها رجل تركى وفيها سرير شاغر . فقلت تركى تركى المهم أنقل ونقلت ومن أول وهلة تعارفنا . كان اسمه ( عكاش قرة قوش ) من محافظة (مرقش) بجنوب شرق تركيا وكان فى الأربعين . وحضرلمصر من أجل اتقان اللغة العربية بالحضور فى محاضرات أساتذة كلية دار العلوم وكلية الأداب لأنه من أساتذة العربية وعلوم الدين فى بلده . لذلك طلب منى أن أتحدث إليه بالفصحى لأنه لا يعرف العامية فقلت له : (حاضر ) وسألته : هل تشرب معى الشاى ؟ فقال : قليل . أى يشرب وعزم على هو بالشيكولاته ويسمونها ( سكر ) ولأن العربية لغة الضاد فلا يستطيع غير العرب نطق الضاد بل كان ينطقها ظاء هكذا ( تفظل سكر) !
فى اليوم الأول وجدت أن زميلى التركى جاء من بلاده بما لا نتخيله . جاء بالطرشى والمخلل وهم يخللون كل شىء من الليمون والفلفل والخيار حتى الطماطم واللوبيا وكل شىء وكان يشرب أمامى ماء الطرشى باستمتاع غريب أدهشنى وعزم على فرفضت . وكان يأكل شيئا مثل الشعرية عندنا تسمى عندهم ( طرحنة ) .. طبعا أنا الأن وبعد عشرين سنة أشرب مية الطرشى بنفس استمتاع صاحبنا ولله فى خلقه شئون ولا أتعظ من ارتفاع نسبة الأملاح فى جسمى !
المهم فى أول ليلة هم زميلى التركى بالنوم قرابة الثامنة مساء . وكنا فى فصل الصيف وكنت مدمن سهر مثل كل المصريين سهيرة ولا ننام إلا مع الفجر وفينا من ينام بعد شروق الشمس وأغلب سهر المصريين صرمحة وحكاوى فارغة وكنت أحبه للقراءة أما الأن فأنا أعد الرجل المحترم هو من ينام قبل منتصف الليل وأحسد جدودى الذين عاشوا بلا كهرباء ولا نت ولا مياه نقية وكانوا ينامون من بعد صلاة العشاء !
على كل بعد دقائق سحب ( عكاش ) الغطاء عن وجهه وسألنى : متى تنام ؟ كنت أقرأ فى كتاب ( أدب المقالة الصحفية ) لعبد اللطيف حمزة . فأجبته : ليس الأن . فنام قليلا ثم عاد يسألننى بإلحاح وحنق : متى تنام .. متى ..متى ؟ فقلت : ليس الأن وليس قبل منتصف الليل . فنهض من سريره متضايقا وغادر الغرفة ومرعلى الغرف المتراصة على الجانبين فى ممر طويل فوجدها كلها مفتوحة الأبواب والطلبة يتسامرون ويتضاحكون ويدخنون ويشربون الشاى بأصوات عالية وكأننا فى مولد فعاد أكثر حنقا وغيظا وسألنى : المصريون لا ينامون ؟! فأكدت له من جديد أننا نحب السهر لدرجة الإدمان . وطبعا لم أذكر له بقية الحقيقة وهى أننا شعب نقدس اللهو والصرمحة والأونطه وونعتبر الهروب من العمل والمسؤلية شطارة ونصف المجتهد بأنه ( حمار شغل ) والملتزم بأنه ( حنبلى ) .وقد وصفنا أحد الرحالة فى العصور الوسطى بأن المصريين فى لهوهم كأنهم فرغوا من الحساب !
استسلم التركى للأمر الواقع وسحب الغطاء على وجهه وهو يقول لى : أنت تجتهد وأنا أنام . المقصود أنه سلم ورفع الراية البيضاء. فقلت فى نفسى لقد حققت ما عجز عنه محمد على باشا وهزمت الأتراك الذين كبسوا على قلوبنا أربعة قرون .
ولأننا شعب جبار نذيب غيرنا ولا نذوب . فراعنه بصحيح . تحول صديقى التركى 180 درجة وأصبح يحب السهر معى ويطلب منى أن أضبط مؤشر الراديو على صوت أم كلثوم التى كان يحبها وكذلك صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد دون بقية القراء . وبالمقابل كان يضبط المؤشر على صوت فنانة تركية يهيم بها وكان يترجم لى ما تقوله من كلام لحبيبها .
أكثر من هذا اشتريت له بعض القصص وكنت أقرأفيها معه لتدريبه على النطق السليم . وأحيانا أمثل له المعنى الغريب مثل ( هب واقفا ) فكنت أنهض من مقعدى سريعا وأقول له هوذاك !

وكان يرتدى ملابسه القومية التى نجدها فى صور الخديو والأمراء والأكراد العراقيين لليوم من سروال طويل جدا أسود اللون ويتدلى منه حزام . بالبلدى كان أشبه بلباس المراكبية والنجارين زمان وكان يمشى به فى المدينة وحذرته من الخروج به فخرج وعصى أمرى وذهب به لميدان التحرير ولجامعة القاهرة وعاد يقول لى : ( الناس كانت تنظر وتضحك ) فمت على نفسى من الضحك وقلت له : ألم أحذرك !  

مذكرات فلاحة مصرية(مقدمة) /بقلم صلاح البيلى

هذه حكاية عجيبة ترجع لمطلع التسعينيات من القرن العشرين وتحديدا سنة 1992 وبطلتها أمى التى كان عندها أنذاك خمسين عاما تقريبا وكانت لم تخرج من قريتها اللهم إلا إلى شربين أى المركز بعد وفاة أبى لعمل إعلان الوراثة .والثانية إلى المنصورة لإستئصال الرحم بالمستشفى الجامعى . غير ذلك لم تبرح قريتها إلا إلى بلدة رأس الخليج المجاورة والطفل على يديها إذاسنن أى خرجت له أسنان !!
تخيلوا هذه القروية كيف ستكون ردود أفعالها إذا زارت القاهرة أو مصر أم الدنيا كما يطلق عليها الفلاحون والصعايدة .. وتخيلوا أن أمى دخلت الأوبرا ! والله دخلت الأوبرا فكيف كان رد فعلها وماذا قالت ؟
كذلك زارت الأهرامات والحسين والسيدة زينب وحديقة الأ ورمان وغيرها من معالم القاهرة بصحبتى أى قمت بدور المرشد السياحى لها والمحصلة هذه الحكايات .
أمى التى لم تجرؤ على الوقوف على شباك باب بيتنا فى حياة أبى جلست على قهوة الفيشاوى بالحسين وشربت الشاى بالنعناع وتواصلت مع السياح بالإشارة !
إنها قصة عجيبة فيها من العفوية بقدرمافيها من التشويق والإثارة وأترككم مع الحكاية لتعيشوا معها من بدايتها.

هذا وقد نشرت الحكاية على 12 حلقة بصحيفة ( عيون ) الأسبوعية فى الفترة من نوفمبر 1993إلى مارس 1994 ولاقت إعجابا أنذاك ظهر فى كم الخطابات التى كانت تنهال على رئيس تحريرها الأستاذ أحمد فاضل .

الموجى الصغير فى حوار جرىء جداا

الموجي الصغير :

 كنت أول من قدم علي الحجار ونادية مصطفي ولم يسألا عني بتليفون!
جميع المسابقات الغنائية (سبوبة)

كل لجان التحكيم تحتاج لمن يحكم علي أصواتها وبلا تاريخ
والشهرة لا تصنع تاريخاً
حوار: صلاح البيلي
 أعترف بلجنة تحكيم بها حلمي بكر ومحمد سلطان وهاني شاكر وسميرة سعيد فقط
عبدالحليم امتداد لمدرسة الغناء المصرية وليس عدوية ولا منير ولا حميد ولا علي حميدة ويليه في التاريخ الفني هاني شاكر
(من غير ليه» لعبدالوهاب كسحت كل الألوان الموجودة وقتها و«رسالة من تحت الماء» للموجي فعلت ذلك
ثروت والحلو والحجار ومدحت وطارق فؤاد وأحمد إبراهيم وأنغام وغادة رجب وآمال ماهر الامتداد الطبيعي لمدرسة الغناء بعد هاني شاكر
الغناء بالتركي والخليجي شهادة تقدير لمطربينا ومطرباتنا وظاهرة إيجابية
يرقد الموجي الصغير في بيته إثر إجراء عملية قلب مفتوح لتغيير صمام قبل ثلاثة أشهر كان رفيقه الدائم فيها هاني شاكر، الذي يعده آخر مدرسة غنائية مصرية جاءت بعد مدرسة عبدالحليم.. والموجي في فترة النقاهة غاضب ممن لم يسألوا عنه خاصة علي الحجار ونادية مصطفي وهما من اكتشافه وكان أول من لحن لهما وقدمهما!
وفي هذا الحوار الذي لا تنقصه الصراحة يفيض الموجي الصغير في الكلام واضحاً مباشراً عن حال الأغنية المصرية والعربية الآن، ويُقيم المسابقات الغنائىة الفضائية، وظاهرة الغناء باللهجة الخليجية، ويقول رأيه في زملائه ومن تلاهم من ملحنين ومطربين، ويفرق بين الخلود والتاريخ من ناحية والجماهيرية من جهة أخري، ويقولها صراحة إن الغناء المصري بخير طالما بقي هاني شاكر، وإلي نص الحوار.
الموجي الصغير سلامتك، بداية حدثنا عن محنة مرضك؟
- اضطررت لإجراء عملية قلب مفتوح بقصر العيني لتغيير صمام في ديسمبر الماضي بعد أن حذرني الأطباء أن حياتي في خطر، وكنت خاطبت إيمان البحر درويش ووعدني بأن تقف نقابة المهن الموسيقية بجواري وهو ما لم يحدث والذي وقف بجواري هاني شاكر أخي وصديق دراستي والذي قدمه أبي بنفسه بلحن له سنة 1972 علي خشبة المسرح بأغنية «حلوة يا دنيا» كلمات فتحي الغندور وقدمه معه محمد سلطان وفايزة أحمد، في هذا الوقت كان يوجد خصام بين أبي وحليم وكان أبي اقتنع بصوت هاني وشعر أنه قريب من قلبه وقدم له بعد ذلك: «وصلنا فين» و«سوق الهوى» و«علمني حبيبي» و«بتسأليني ليه» و«تعالوا ياحبايبي» و«حلوة وخفة»، وفي الليلة المحمدية قدم له لحن «الجار للجار» وفي الوطنيات قدم له «خلي بالك يابلدنا» و«بلاد القمر» وأغاني مسلسل «أغنية فوق السحاب» مع زيزي البدراوي، وقدمت له أنا لحنين هما: «اللي حب بلاده» و«علي باب الله».
من وقف بجوارك أو سأل عنك بخلاف هاني شاكر؟
- لا أحد، فقط هاني والتلفزيون المصري، أما علي الحجار ونادية مصطفي فلم يسألا سؤالاً بالتليفون رغم أني قدمتهما لأول مرة علي خشبة المسرح، وعرفت أن نادية ذهبت لحفل تأبين عمار الشريعي بالأوبرا ونسيت أن تسأل عمن قدمها لأول مرة وأنا بين الحياة والموت!
عمار
ألم تحزن برحيل عمار الشريعي؟
- بالعكس حزنت جداً وكنا معاً عند تجهيزه لأغاني مسلسل «العندليب» واستعان بي لأداء المقاطع الغنائىة التي كان يؤديها والدي مع عبدالحليم وكنا معاً بالاستديو، ومرة قال لي بالتليفون لولا أن أبي مات لظنه باقياً لأن صوتي يشبه صوت أبي تماماً.
أجيال الملحنين
من بقي من جيل المبدعين من الملحنين برأيك؟
- بعد جيل سيد درويش ظهر جيل عبدالوهاب والسنباطي ثم تلاه جيل محمد الموجي وكمال الطويل ثم تلاه جيل بليغ حمدي ثم جيل محمد سلطان وحلمي بكر ثم جيل عمار الشريعي ثم جيلي الذي يضم سامي الحفناوي ومنير الوسيمي ومحمد الشيخ وخليل مصطفي ومحمد علي سليمان وكريم مصطفي ومن الشعراء الكبار بقي الأبنودي.
المسابقات الغنائىة
انتشرت موضة المسابقات الغنائية علي الفضائىات لتقديم الأصوات الشابة فما رأيك بها؟
- إذا كانت اللجنة التي تقيم بها محمد سلطان أو حلمي بكر أو هاني شاكر أو سميرة سعيد فأهلاً بها لأن هؤلاء لهم تاريخ مع أكاديميين وسوليفيج خبير بالنوتة والنغمات الموسيقية، أما ما يجري الآن من وجود أصوات باللجان تقيم الأصوات وهي نفسها تحتاج لتقييم فهذا أرفضه لأن كاظم الساهر وصابر الرباعي وإليسا ونانسي عجرم وكارول سماحة مهما غنوا ولو لـ 20 سنة ليسوا في موضع التقييم ولا الخبرة وكذلك «وائل كفوري وشيرين وحسين الجسمي» ما هو تاريخهم؟!.. إنهم موضع تقييم للآن من الجمهور ولا نزال نقول عنهم: «حلو وردئ» وكلامي ينطبق علي «أصالة» أيضاً، أما هاني شاكر الذي غني من سنة 72 وظهر كنجم بين العمالقة وفي وجود عبدالحليم ولفت نظره وكذلك سميرة سعيد وحلمي بكر، فهؤلاء يحق لهم أن يقيموا كيفما شاءوا لأنهم أهل للتقييم.
التاريخ والجماهيرية
كيف تمنع أصالة وكاظم الساهر مثلاً من التقييم وجمهورهما بالملايين؟
- التاريخ شيء والجماهيرية شيء آخر، مثلاً أستطيع غداً تلحين أغنية تكسر الدنيا فهل بذلك تدخل التاريخ؟.. إن عدوية حقق جماهيرية وقت عبدالحليم وبعده فوق الوصف فهل وضعته في مصاف عبدالحليم؟.. عبدالحليم حفر في الصخر ليصنع جمهوره بعكس عدوية، كيف لمطرب عمره الفني 10 أو 20 سنة يحكم علي غيره لكن حلمي بكر تاريخ وهاني شاكر وسميرة سعيد تاريخ ويحق أن نناديهم بلقب «أستاذ» بعكس «شيرين أو عاصي» أو وائل كفوري» كيف نسبق أسماءهم بلقب «أستاذ»؟!.. لقد اختبرت عبدالحليم بالإذاعة لجنة مكونة من «أم كلثوم وعبدالوهاب والسنباطي والقصبجي»، ونجح وبذلك ظهرت الموهبة في مكانها الصح، وقبل ذلك اختارت لجنة من العمالقة محمد الموجي، وقبل ذلك غني عبدالحليم أمام لجنة «مصطفي رضا وعبدالحليم الحديدي» وسقط لأن اللجنة كانت صاحبة ذوق قديم ولما تغيرت أجازوه، أما ما يحدث الآن فهو فوضي وسبوبة ولو كان الهدف لوجه الفن فقط كانوا استعانوا بأصحاب التاريخ مثل حلمي بكر وهاني شاكر وسميرة سعيدة ومحمد سلطان وأمام أساتذة من المعهد وليس أمام أسماء مشهورة ولامعة لمجرد أنها مشهورة!
معني ذلك أن الغناء توقف عند عبدالحليم؟
- عبدالحليم قدم شكلاً جديداً لمدرسة الغناء المصرية والعربية، أما من عاصروه وأتوا بعده فقدموا ألواناً خاصة مثل «حميد الشاعري» و«محمد منير» و«فهد بلان» والدليل أن سامي الحفناوي وهو ملحن قديم قدم «لولاكي» وكسرت الدنيا ليؤكد أن الملحن الأصيل قادر علي كسب الجماهيرية السريعة.. وهذه الألوان قدمت في وقت قدم فيه عبدالوهاب «من غير ليه» و«أسألك الرحيلا» فكسر بهما الدنيا.. وفي وقت عدوية و«سلامتها أم حسن» و«زحمة يا دنيا زحمة» قدم أبي لعبدالحليم: «رسالة من تحت الماء» و«يا مالكاً قلبي» فقلب بهما الدنيا.
فمن هو امتداد عبدالحليم؟
- الأمل في هاني شاكر فهو النغمة الصادقة والصح في الأغنية المصرية الآن وهما بخير طالما هو موجود، وهو ليس امتداداً لحليم، ولكنه امتداد لنغمة المدرسة المصرية الأصيلة، ولو كان غير ذلك ما نجح بجوار عبدالحليم وحافظ علي أصالته وشرقيته للآن.
فمن يليه؟
- يليه ثروت والحجار والحلو ومدحت صالح وأحمد إبراهيم وطارق فؤاد وغادة رجب وأنغام وآمال ماهر.
.. ولكن المطربات أنغام وغادة وآمال غنين بالخليجي، أهي ظاهرة؟!


- حليم غني «ياهلي ياهلي» وغادة غنت ألبوماً كاملاً بالتركي وهذا يحسب لهن أنهن قبلن التحدي وغنين بالتركي والخليجي وبذلك يؤكدن أنهن قادرات علي الغناء بأي لهجة وليس من أجل المال كما يشيع البعض.