نعود لأمى التى لم تزر شربين التى تبعد عن قريتهاإلا بأقل من عشرين كيلو مترا إلا
مرات معدودة . أما المنصورة فلم تزرها أمى خلال نصف قرن إلا مرتين .. الأولى
وعمرها أقل من 14 سنة للتسنين بغرض الزواج . وهو لمن لا يعرفه من الأجيال الجديدة
. أن يوقع طبيب مختص على شهادة رسمية بأن أمى بلغت سن الزواج . وكان الزواج يتم
قديما فى سن صغيرة .غالبا فى سن 12 و13
سنة . أى يأخذون الطفلة (من الدار للنار ) على رأى المثل وهو المسمى حاليا بزواج
القاصرات وكان سن الزواج للفتاة قانونيا 14 سنة ثم رفع إلى 16 ثم ل 18 سنة حاليا فزادت نسبة العنوسة فى القرى ولا
نعرف ماذا يخبىء لنا المجلس القومى للمرأة أيضا وأظن أنه سيظل يرفع سن الزواج ل20
ثم 30 وقد يصل ل50 سنة . ومع اتجاه الفتاة العصرية لتحدى الرجل واعتبارة العدو
الأول ومصاص الدماء والشيطان والثعبان الأقرع قد نصل لا ستغناء النساء عن الرجال ويا
دار ما دخلك شر ونفضها سيرة !
المهم لم تكن أمى فى زواجها المبكر أعجوبة عصرها بل كانت
هكذا كل نساء مصر خاصة فى القرى . أى أن كل جدودنا فى عرف مجلس المرأة الحالى
متهمون بتزويج القاصرات . وتذكر أمى للأن أنها كانت تلعب فى الشارع مع الأطفال
وكانت تظن أنها ستذهب للبيت الأخر أى بيت جدى وأبى للعب ولم تتصور أنها ستتحمل
مسؤلية بيت وحمل وخلافه .بصراحة أمر صعب وفيه ظلم حقا للفتاة. خاصة أنها حملت بمجرد
زفافها فى أخى الأكبر يسرى وتقول إنهاكانت لا تستطيع أن تمشى فى أخرحملها وكانت
تمشى مقوسة الظهر وتخجل من أشقائها الكبار وكأنها متهمة . هكذا كانت التربية زمان
أما فى زماننا الميمون بعد قوانين ( جيهان وسوزان ) فإن الرجل هو الذى يتوارى خجلا
من المرأة وقد يندثر كائن الرجل قريبا ويصير من الأشياء الأسطورية المنقرضة !
أما المرة الثانية التى ذهبت فيها أمى للمنصورة فكانت
بعد وفاة أبى وبهدف استئصال الرحم بمستشفى الجامعة . كان ذلك وعمرها نحو خمسين سنة
وكنت فى كلية الإعلام أنذاك . وكانت الدنيا لا زالت بخير لحد ما أو هكذا كنت
أتصورها قبل أن أفهم وأعرف . والمعرفة قلق ووعى ومسؤلية . وللرسول عليه السلام
مقولة : (لو علمتم ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا ). أى أن أمى لم تزر
المنصورة غير مرتين وشربين مرات معدودة على الأصابع حتى ذلك التاريخ وكان عالمها
محصورا فى بيتها وقريتها وكان بيتها مملكتها . وكانت شاطرة فى تربية الطيور من
حمام وأوز وبط ودجاج وأرانب . وذات نفس للأن فى الطهى والعجين والخبيز وشوى السمك
فى الفرن . وأشهد أنى عشت طفولة رائعة حتى بما فيها من معاناة أحيانا وتربيت على
طعام صحى وطبيعى لم يعد متاحا اليوم لأحد .
تعليمها
فما هو تعليم أمى ؟ أو ثقافتها أو مصادرها للمعرفة ؟ .. حصلت
أمى على قدر بسيط من التعليم قبل 1952م أى لرابعة ابتدائى كما تتذكر وأتاح لها ذلك
أن تقرأ القرأن الكريم وأى كتاب أو صحيفة أو مجلة تقع فى يدها لدرجة أنها كانت
تقيم مقالاتى وموضوعاتى الصحفية عندما عملت بالصحافة وحتى الأن . وتقول لى رأيها
الفطرى البسيط ولكنه يكون صوابا دائما وعميقا . وتتابع أمى مقالات سكينة السادات
فى مجلة ( حواء ) وهى تتناول موضوعات اجتماعية من زواج وانفصال وفراق. وكلما دخلت
البيت بكتب تتصفحها وتختار ما يناسب مزاجها لتقرأه وما عداه لا تلتفت إليه وتصفه
بأنه ( هايف ) !
أنبياء الله
وأذكر أنى كنت فى زيارة لبيت الكاتب الجميل الراحل أحمد
بهجت فى مصر الجديدة وأهدانى كتابه ( أنبياء الله ) وعدت للبيت فوضعته على المنضدة
. فأخذته أمى وظلت تقرأ فيه للساعة الثانية بعد منتصف الليل وكأنها سوف تمتحن فيه
باكر ولم تتركه إلا عندما أطفأت الأنوار عليها كى تنام وتريع عينها . وواصلت يوميا
القراءة فيه حتى أكملته . وأمى تنجذب عادة للكتب الدينية ولكن انجذابها لهذا
الكتاب أنذاك لفت انتباهى وقد حكيت هذه الحكاية لأحمد بهجت ففرح كثيرا وأخبرنى أن
بهذا الكتاب سرا لا يعرفه فقد طبع عشرات الطبعات وترجم مثلها وكأنه لم يكتب غيره .
وقد قرأت الكتاب لاحقا فوجدته ليس تاريخا للأنبياء بل هو سرد قصصى صوفى لسيرهم
الذاتية فى عبارة واضحة وجملة قصيرة وتفسير إنسانى للمواقف التى تعرضوا لها .
بابا شارو
أما المصدر الثانى للمعرفة قبل ظهور التليفزيون فكان
الراديو . وأمى سميعة راديو للأن وأنا مثلها . وكانت تتابع برنامج ( ربات البيوت )
الصباحى
الشهير وكلمة
الإذاعية صفية المهندس زوجة وتلميذة الإذاعى ( بابا شارو ) كما تتابع ( على
الناصية ) لأمال فهمى . وكانت تجمعنا ونحن صغار أولادها الثلاثة على المسلسل الإذاعى
الذى يعقب نشرة أخبار الخامسة بالبرنامج العام وكان موعده فى الخامسة والربع بعد
الظهر وكانت هناك تمثليات إذاعية شهيرة فى ذلك الوقت . وكانت تتعجب كثيرا من تكرار
ذكر صفية المهندس لبابا شارو فهو الذى
علمها وهو أستاذ كل الاذاعيين وهو الكاتب والموسيقى والأب والزوج و..فقلت لها لأنه
زوجها . فالإذاعة مثل كل شىء فى مصر عائلية وبالوراثة . فكانت تسألنى عن معنى بابا
شارو ! فلا أعرف ماذا أقول ولكنى قلت لها إن اسمه الحقيقى محمود شعبان وهو
اسكندرانى . وبصراحة ماما صفية كانت مبالغة حبتين فى تعظيم بابا شارو . وكل فترة
تقول : بابا شارو قال وبابا شارو عمل وأنا قلت لبابا شارو لدرجة مستفزة وكأن بابا
شارو هو الإذاعة والدنيا كلها ! عموما يا بخته لما زوجته تراه بعيونها وكأنه
الدنيا كلها . أما الأن فالزوج هو المنيل والمدهول واللى ما يسمى والعدو المستحق
للموت . بالتأكيد زمان كان زمن الاحترام للرجل والمرأة وعندما قرأت مذكرات ولدى
أحمد أمين ( جلال وحسين )- وهو بالمناسبة أحد أهم من قرأت لهم فى التراث –وجدت أن
زوجته لم تنادى عليه باسمه مجردا أبدا.
دخول التليفزيون
وعندما دخل التليفزيون بيوتنا بعد دخول الكهرباء فى فترة
ما بعد حرب أكتوبر 1973 صار مصدرا للأخبار والترفيه خاصة فى رمضان بعد الافطار
وكان هناك مسلسل واحد على القناة الأولى وأخر لاحقا على القناة الثانية . وكانت
المسلسلات رائعة تأليفا وتمثيلا مثل ( عائلة الدوغرى وليالى الحلمية ورحلة
أبوالعلا البشرى وعصفورالنار ) وغيرها . وكان التليفزيون ينهى برامجه فى منتصف
الليل . وكان هذا عين الصواب قبل أن يصيبنا طوفان الدراما على كل شكل ولون .. مصرى
وسورى وتركى وأمريكى وهندى ويايانى !وزادت الفضائيات العربية عددا وتفاهة وسخافة
لدرجة التخمة وما بعد التشبع وصار الإرسال على مدار 24 ساعة وياللعجب والخسارة
.وكأننا أمة خلقت للهو !
عموما ظلت أمى وفية للراديو ولم تنجذب للتليفزيون إلا
مؤخرا بعد انتشار القنوات الدينية والتى وجدت فيها طريقة عصرية لتعلم أمور دينها .
نعم إنها تصلى وتصوم وتؤدى فرائض دينها من صغرها ولكنها لم تكن متبحرة فى الدين
وليس مطلوبا منها ذلك.
وقبل الراديو
والكهرباء والتليفزيون كانت لأمى مصادرها المعرفية بداية من الشيخ بلال ووالدها
الشيخ عبد الصمد وأشقائها والحاجة اعتماد ونهاية بأبى وأم على وبنا نحن أولادها
الثلاثة ( يسرى وخالد وأنا ) عندما تعلمنا وكبرنا ولنبدأ بالشيخ بلال ..